خلوة ابن خلدون.
هل أقام ابن خلدون داخل مغارة بجبل كاف الحمام كما هو متداول حقا..؟
قادتني مهمة عمل إلى ولاية تيارت، فاستغليت فرصة الرجوع لزيارة منطقة تاوغزوت بفرندة التابعة لولاية تيارت غرب الجزائر حيث يتواجد بها ما يعرف اليوم بمغارة ابن خلدون الواقعة على ارتفاع 1030م فوق سطح البحر بسفح جبل كاف الحمام.
وهي المنطقة التي كان لها حظ كتابة جزء كبير من تاريخ أمتنا المشرق، ومن تاريخ الإنسانية أجمع، وشاهدة على حدث تاريخي غيّر مجرى العلوم الإنسانية بميلاد كتاب "المقدمة" الذي ألّفه ابن خلدون بعد أربع سنوات من بقائه في هذه المنطقة، فصار هذا الكتاب المرجع بمثابة الإعلان عن وضع أولى لبنات علم الاجتماع البشري، وهو الأمر الذي يؤكده المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي بقوله "إنّ ابن خلدون قدّم للفكر البشري فلسفة للتاريخ تُعدُّ أعظم عمل لم يسبق أن أنجزه عقلٌ بشري، في أيّ زمان وأيّ مكان من قبل.."
تحكي بعض المراجع والأبحاث التي أرخت لسيرة ابن خلدون، أنّ العلامة ابن خلدون اعتكف بالمغارة الواقعة بقرية تاوغزوت من سنة 1375م إلى غاية 1379م لتأليف أهم كتبه "المقدمة"، الذي يعتبر مقدمة منهجية لمؤلّفه الضخم "ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السّلطان الأكبر.."
فهل اعتكف فعلا العلامة ابن خلدون داخل هذه مغارة بجبل كاف الحمام حقا كما يزعم الكثيرون ؟
إنّ أوّل ما يشدّ انتباه الزائر لقلعة بني سلامة بقرية تاوغزوت، هو روعة المكان، وبهاء مناظره الطبيعية التي تأسرك بجمال جبالها وسحر جنانها حتى قبل أن تتجول داخل مواقعها الأثرية.. فقد شيّدت قلعة بني سلامة فوق قمة جبل شاهق منحها تحصينا طبيعيا من ناحية الشّمال والجنوب والغرب. أما الطريق الموصل للقلعة من جهة الشّرق فهو صعب المسالك وعند مدخله الشرقي تظهر علامات تبين أن القلعة كانت محصّنة بسور خارجي، وخندق بباب متحرك.
عند وصولي للقرية قادني أحد أبناء المنطقة إلى المكان الذي يحوي المغارة التي اعتكف بها ابن خلدون مدة أربع سنوات، والتي تقع أسفل قمة الجبل قليلا ناحية الغرب، وهي على شكل تجويف صخري من الحجارة الرسوبية، يحوي بداخله تجاويف داخلية على شكل ثلاث مخازن صغيرة بمساحة إجمالية تقدر بحوالي 17 متر مربع. وخارج المغارة وبالقرب منها مباشرة لفت انتباهي وجود آثار أساسات لجدران قديمة داثرة لغرف بنيت بالحجارة المصقولة المشذبة على شكل مكعبات مختلفة الأحجام، في إحدى هذه الغرف تتواجد مغارة لا يدل حجمها الصغير على استعمالها كمأوى للإنسان.. وليس ببعيد عن الموقع توجد أيضا مغارة أخرى تدل الحجارة المرصوصة حولها أنها زودت بباب لغلقها واستعمالها لأغراض أخرى وليس للسكن على ما يبدو.
وبالرجوع إلى ما كتبه ابن خلدون في كتابه حول ظروف قدومه إلى قلعة بني سلامة واستقباله من قبل شيخ سويد أبو بكر بن عريف الهلالي، فنجده يصف قدومه بقوله: "ولما نزلت بقلعة ابن سلامة بين أحياء أولاد عريف، وسكنت منها بقصر أبي بكر بن عريف الذي اختطه بها، وكان من أحفل المساكن وأوثقها، ثم طال مقامي هنالك وأنا مستوحش من دولة المغرب وتلمسان، وعاكف على تأليف هذا الكتاب، و قد فرغت من مقدمته إلى أخبار العرب و البربر و زناتة، و تشوفت إلى مطالعة الكتب و الدواوين التي لا توجد إلا بالأمصار، بعد أن أمليت الكثير من حفظي، وأردت التّنقيح والتّصحيح.." وفي مقطع آخر يقول كذلك: "وخرجت من تلمسان حتى انتهيت إلى البطحاء فعدلت ذات اليمين إلى منداس ولحقت بأحياء أولاد عريف قبلة جبل كزول فلقوني بالتّحف والكرامة وأقمت بينهم أياما حتى بعثوا عن أهلي وولدي بتلمسان وأحسنوا العذر إلى السّلطان عني في العجز عن قضاء خدمته وأنزلوني بأهلى في قلعة أولاد سلامة من بلاد بنى توجين التى صارت لهم باقطاع السلطان فأقمت بها أربعة أعوام.."
نفهم من النصّين المذورين أعلاه أن ابن خلدون لم يأت على ذكر إقامته داخل مغارة كما يزعم الكثيرون من بعده. بل ما هو واضح بشكل جلي من الفقرتين أنه كان يقيم معززا مكرّما بأحفل المساكن وأوثقها داخل قصر أبي بكر بن عريف بقلعة بني سلامة كما يصف هو بذاته، حيث لا تزال أساسات المساكن والغرف قائمة إلى اليوم. وقد تلقّاه هناك اولاد عريف بالتّحف والكرامة.. أما أن يقضي ابن خلدون الوزير والقاضي والدبلوماسي -الذي عرف بقربه من قصور الملوك والأمراء- أربع سنوات كاملة داخل مغارة ليؤلف فيها كتابه، فهذا في رأيي أمر مستبعد جدا.. فما تم تداوله يعتبر برأيي من الصور النمطية الخاطئة التي ألصقت بسيرة ابن خلدون في وقت متأخر، فلا يوجد أي نص أو دليل معاصر لتلك الفترة يثبت أن ابن خلدون اتخذ المغارة كمكان لسكنى والإقامة..
وعليه قد يتساءل البعض عن ما هو الغرض من وجود هذه المغارة في هذا المكان إذا..؟
من خلال دراستنا الأثرية والمعمارية للكثير من القصور العربية الهلالية وحتى القصور البربرية الزناتية، لاحظنا تواجد العديد من الكهوف والمغارات التي تم حفرها داخل البيوت وبجوار الأزقة والدروب، لغرض تخزين المؤونة والحبوب وحفظها من التّلف والضّياع خصوصا في فصل الصيف، وهي عادة لا تزال قائمة إلى يومنا هذا في العديد من القصور الصحراوية كقصر تيوت، صفيصيفة، إيش بالأطلس الصّحراوي، وقصر إيغزر وأغلاد بڨورارة، والعديد من القصور الأخرى.. وما يدعم هذا الافتراض أكثر هو وجود أكثر من مغارة داخل قلعة بني سلامة، بعضها لا يستوعب حجم إنسان واحد، مما يؤكد على عدم استعمالها كغرف لسكن الإنسان، ويدل على أن القصر كان غنيا بأماكن التّخزين المحصّنة بعيدا عن درجة الحرارة المرتفعة والرطوبة العالية لحفظ الغذاء والمؤن لضمان تزويد ساكنيه بحاجياتهم الضرورية أطول مدة ممكنة في حال تعذر وصول المؤونة للقصر لأي سبب من الأسباب الخارجية.
فالربط بين الخلوة والمغارة الذي وقع فيه كثير من الباحثين المتأخرين يبدو أن مردّه تأثير الثقافة الشعبية التي سادت بعد ابن خلدون لقرون والتي تعتقد باتخاذ الأولياء والمرابطين والنّساك المتعبدين من الصوفية والزهاد للمغارات والكهوف كأماكن للعبادة والتأمل، لسبب بسيط وهو وجود مغارة بقلعة بني سلامة حيث كان يقيم ابن خلدون، إذ لا يزال الكثير من أبناء القرية البسطاء والوافدين إليها من عامة الناس إلى يومنا هذا يتخذون المغارة كمكان لطلب للزّيارة والتبرك، عبر إشعال الشّموع وذبح الأضاحي أحيانا.
وعليه يمكننا القول: أنّه من المستبعد جدا أن يكون العلامة ابن خلدون قد أقام داخل مغارة مدّة أربع سنوات كاملة.
أحمد عقون، قرية تاوغزوت، بلدية فرندة، ولاية تيارت.
ماي 2021م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق