"ريش الخيمة"، خيمة اولاد سيد الشيخ
ملاحظة أنثروبولوجية.
تعتبر الخيمة علامة مميزة لبدو منطقة الهضاب العليا بالجنوب الغربي الجزائري الأعلى، فهي من أهمّ رموز الرّعي والتّرحال في البوادي، وركن من أركان الحياة البدوية التي لها مراسيمها الخاصّة وطقوسها الفريدة، لما تحمله من قيم رمزية لها دلالات ومعاني تشكّلت حولها تقاليد وإنتاجات ثقافية وفنية ثريّة ومتنوعة على مرّ العصور، جعل منها حيزا رمزيا، وفضاء للذّاكرة، وعلامة على مجموعة من القيّم السّامية في حاجة إلى الاستحضار والرصد والبحث والاسكتشاف. بل ولما لها أيضا من ارتباط بتاريخ مجتمع القصور والسهوب بمنطقتنا، فهي تعبّر عن وجوده الحضاري، كما تعبر عن استمراريته وصيرورته، بل وفي بعض الأحيان تعتبر شكلا من أشكال التعبير عن الهويّة.
ومن بين المظاهر الثقافية التي تشدّ انتباه أي زائر لبوادي ولاية النعامة والبيض بالخصوص، هو ملاحظة مجموعة من الحزم المتراصّة في أعلى الخيمة تسمى محليا باسم "الرّيش" وهو عبارة عن لفائف تصنع من شعر الماعز وتشدّ بإحكام بخيوط متينة يتم نسجها من الصّوف والشّعر، ثم توضع فوق "القنطاس" الذي تحمله الرّكيزة الأساسية في أعلى نقطة في الخيمة، وما يلفت الانتباه أكثر أنها خاصة ببعض الخيام دون سواها.
فما هو هذا الرّيش؟ وما هي دلالاته الثّقافية وأبعاده الرّمزية؟
يعتبر ريش الخيمة علامة مميزة لخيام اولاد سيد الشيخ أساسا وبقية بني عمومتهم دون سواهم، فلا تكاد تقف أمام خيمة من خيامهم إلا وترى تاج الرّيش شامخا متربعا فوقها، وللاستفسار عن مكونات واستعمالات هذا الرّمز المميز نظّمت زيارة للسيد سي سليمان بحوص وهو بدوي من قبيلة اولاد سيد التاج -أحد أبناء الولي الصالح سيدي عبد القادر بن محمد المعروف باسم سيد الشيخ- يقيم حاليا ببادية تيوت في خيمته التي لا تزال تحتفظ بجميع مكوناتها الأساسية التي توارثها أبا عن جد، من بينها "ريش الخيمة". لا يقدم سي سليمان الكثير من المعلومات عن ريش الخيمة، تاريخه، دلالاته، ورمزيته.. بل حتى سبب تسمية هذا الرمز "بالرّيش؟" لا يعلم له سببا، شأنه في ذلك شأن الكثير من بني عمومته الذين قابلتهم، فكل ما وصل إلى مسامعهم أن ريش الخيمة هو لفائف تصنع من صوف الغنم وشعر الماعز وتعلّق في أعلى الخيمة لتميّز خيام اولاد سيد الشيخ واولاد سيدي أحمد المجدوب وبقية بني عمومتهم، عن باقي خيام القبائل الأخرى، دلالة على رفعة مقام الخيمة وأهلها، وتبيانا لمكانة القبيلة وصاحبها، وحفاظا على حرمتها ووقارها، لكن وبعد اتصالي بالسيد محمد معمري الزّاوي ولد سيدي بن الدين -وهو من فحول شعراء الملحون في قبيلة اولاد سيد الشيخ- فقد أفادني بأن ريش الخيمة كان يصنع قديما من ريش النعام ويربط على شكل لفائف في أعلى الخيمة، ومنه استمد هذا الإسم، وبعد انقراض هذا الطائر في منطقتنا مطلع القرن التاسع عشر واستحال العثور على ريشه، استبدله الأهالي بالصوف والشعر حفاظا على هذه العادة، وحسب سي محمد معمري فقد كان لريش النعام مكانة خاصة لدى قبائل منطقة الجنوب الغربي عموما واولاد سيد الشيخ خصوصا، واستشهد ببيت من الشعر الملحون من نظمه يصف فيه محبوبته متغزلا:
طَلڨَت مَهْدُورْ عَلى كْتَافْهَا طَاحْ وحْرِيرْ مْخَبَّلْ فِيه كَمْ منْ طَيَّة
رِيـشْ نْعَامَـة ولاّ ظْلِيـــــمْ دَوَّاحْ يْتْڨَلَّبْ فالصَّحْرَا عْرَامْظْ عْفِيَّة
يشبه الشَّاعر في هذه الأبيات نعومة وانسياب شعر حبيبته بريش ذكر النعام -الظّليم- حين يكون في مستعرضا ومتبخترا بريشه، ومن خلال البحث في بعض الكتب والمراجع المتوفرة على موقع المكتبة الرقمية الوطنية الفرنسية Galica، فإن رأي الشّاعر سي محمد معمري يتوافق مع ما دوّنه الكتّاب الفرنسيون خلال فترة الاستعمار، فالمؤرخ الفرنسي Gabriel Camps يذكر أن أفراد قبيلة سيد شيخ كانوا يضعون ريش النّعام في أعلى جزء من خيامهم ليتم تمييزها عن بقية خيام القبائل الأخرى من بعيد، بينما يصف الرّحالة الألماني Gerhard Rohlfs خيام اولاد سيد الشيخ سنة 1861م بقوله: "تتميَّز بعض الخيام بثلاثة أعمدة من ريش النّعام المتجاورة تشبه إلى حد ما الطّاقية، فإذا رأينا ثلاث باقات يتأكد لنا أنها خيام اولاد سيد الشيخ، وهي القبيلة التي تسيطر على أكبر منطقة في هذا الجزء من الصّحراء إلى غاية المنيعة" أمّا الكولونال الفرنسي Daumas سنة 1845م فقد وصف قبيلة اولاد سيد الشيخ بقوله: "معسكر أولاد سيدي الشيخ الغرابة يقع بين الأبيض سيد الشيخ شرقا، وفجيج غربا، وجبالهم في الشمال، خيامهم السوداء كلها تعلوها باقات من ريش النعام الكبير، وذلك حسب مكانة صاحب الخيمة أو ثروة العائلة، على اعتبار أن جميعهم تقريبًا من المرابطين، فهذه كما يقولون علامة تميزهم عن بقية القبائل، ثم يذكر لنا السّلع التي كان يجلبها اولاد سيد الشيخ إلى أسواق تيميمون وهي: "الغنم، سمن الغنم، الصّوف والشعير، وقبعات سعف النّخيل المزيّنة بريش النعام" تبين لنا هذه المراجع أهمية ريش النّعام لدى القبائل القويّة المسيّطرة في تلك الفترة، والتي يبدو أن لها تاريخا موغلا في القدم، فالتراث المادي الأثري ومن خلال محطات الصخور المنقوشة فإنه يحفظ لنا صورا ومشاهد حية عن حياة العصر الحجري الحديث، تظهر فيه أهمية ريش النعام لدى قدماء المحاربين ، نلاحظ ذلك في كل من محطات: تيوت، قلعة الشيخ بوعمامة، الرجل الملثم في خلوة سيد الشيخ، وحتى بعض جداريات الطاسيلي ناجر، وهي مشاهد لرجال محاربين أو صيادين يحملون أسلحة ويرتدون قبّعات تعلوها باقات من ريش النعام، تتجلى فيها رمزية ريش النعام وعلاقتها بوظيفة الرئيس المحارب والمسيطر، كما تم استخدام بيضه كأوعية لحفظ الماء والطعام، واستخدم قشور بيضه في صنع التمائم والقلائد التي كانت تدفن في طقوس خاصة مع الميت، وهو ما تم العثور عليه في العديد حفريات القبور الجنائزية بمنطقة العين الصفراء. وقد بينت العديد من الأبحاث والدراسات الأكاديمية أن لطائر النعام مكانة خاصة ومميزة لدى شعوب المغرب الكبير والشرق القديم، ففي الميثولوجيا المصرية فقد أصبحت النعامة ترافق الإله "ماعت" إله الصدق والعدل في العام 2600 قبل الميلاد ، فكان رجال القضاء يلقبون بكهنة "ماعت" وكانوا يمثلونها في هيئة امرأة واقفة وعلى رأسها ريشة النعامة، ولعل سبب اختيار المصريين القدماء للريشة رمزا للعدل، هو لأن النعام هو الطائر الوحيد الذي يتساوى ريشه في الحجم، أما في بلاد الرافدين فقد كان لحم طائر النعام يعدّ غذاء الآلهة والملوك الآشوريين، مع رغبة ملوكهم الشديدة في الحصول على ريش ذيله لاستعماله كمراوح تقيهم أشعة الشمس وحرارة الجو.
أما التراث الشّفوي اللاّمادي فإنه لا يزال يحتفظ ببعض هذه الرّمزية من خلال الأمثال الشعبية المتداولة محليا، فقد كانت نساء اولاد سيد الشيخ قديما تتزين بريش النعام بوضعه فوق الرأس، وكان يدل ذلك على مكانة المرأة وجاهها، حتى أنّ هذه العادة أصبحت مضربا للمثل في المرأة التي تترفع عن القيام بعمل البيت بقولهم لها معاتبين ومتهكمين: "علاش ما تنوضيش تخدمي، ولاّ على راسك ريشة..!" وهي دلالة واضحة على مكانة وسمو من يضع ريشة على رأسه، أما من أرادو أن يشيروا إلى ثراه وعلو مكانته يقال له "ينام في ريش النعام".
أما في التراث العربي الإسلامي فقد عرف عرب شبه الجزيرة العربية نفس الظاهرة الثقافية، فقد كان حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، يأخذ ريش نعامة فيمسكه في أعلى عمامته وقت المعركة، فإذا ركب ريش النعامة، عرف الناس أنه سوف لن يحجم عن القتال، وحين استشهد في معركة أُحد كان طوق ريش النعام على صدره علامة تميّزه عن باقي شهداء أُحد في ساحة المعركة. كما كان العرب قديما يميّزون إبلهم بوضع ريش النعام علي أسنمتها رمزا للقيادة والرئاسة، كما أن العديد من محطات الصخور المنقوشة بمنطقة حائل ونجران وجبل صمعر بشبه الجزيرة العربية، توثق في مشاهد ملحمية صورا لرجال محاربين وصيادين يضعون ريش النعام فوق رؤوسهم على شاكلة مشاهد النقوش الصخرية في الأطلس الصحراوي والتاسيلي ناجر، مما يؤكد على وجود جسور للتواصل الحضاري والإنساني بين شبه الجزيرة العربية وشمال إفريقيا منذ عصور ما قبل التاريخ.
فريش الخيمة هو رمز لعلوّ المكانة والمنزلة، خصت به القبائل المرابطية البوبكرية في المنطقة دون سواها، وهو مثال بسيط عن العديد من الرموز الكثيرة التي تحفل بها بادية الجنوب الغربي الجزائري الموغلة في القدم، التي تستوجب البحث والاهتمام، فبالإضافة إلى قيمتها العلمية الفنية والمعرفية، فهي ذات قيمة وجدانية، تكمن في قيمة الرّمز الذي ينتمي إلى الأسلاف، فليعيد ذكراهم عند أخلافهم.
قائمة المراجع:
01- Camps G., « Symbole religieux dans l’art rupestre du Nord de l’Afrique », Valcamonica Symposium 72. Les religions de la Préhistoire, Centro camuno di Studi preistorici, 1975, p. 323-333.
02- Gerhard Rohlfs, Voyages & explorations au Sahara, Tome 1: Draa, Tafilalet, Sud-oranais, Touat, Tidikelt, Rhadamès, 1861-1864. Centre d' Etudes sur l'Eistoire du Sahara,KARTHALA Editions, Paris 2001, Page 85
03- Daumas de Dalmatie, Le Sahara Algérien, Dudos Frére, Alger,1845, P339.
04- صلاح رشيد الصالحي، طير النعام في الحضارات القديمة، مجلة واسط للعلوم الإنسانية،جامعة بغداد، العدد 24، الصفحة 90. 98
أحمد عقون، بلدية تيوت، ولاية النعامة، أفريل 2022.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق