على خطى قافلة عرش البكاكرة: أسرار الصحراء وصدى الشيخ بوعمامة

 


على خطى قافلة عرش البكاكرة: أسرار الصحراء وصدى الشيخ بوعمامة



(وثيقة نادرة من 1890 تكشف أسرار قوافل الجنوب الغربي الجزائري)

الوثيقة، محفوظة اليوم في أرشيف ما وراء البحار الفرنسي، تكشف مسار قافلة من عرش حميان "البكاكرة" انطلقت من شمال جبل عيسى مرورا بتيورطلت نحو ڨورارة. تُعدّ شهادة نادرة عن واقع القوافل التجارية في أواخر القرن التاسع عشر؛ وتُبرز بدقة تنظيم الرحلات عبر الصحراء، وعمق المعرفة المحلية بمسالك الماء، وتظهر استمرار التقاليد التجارية رغم بسط السيطرة الاستعمارية، إلى جانب الإشارة الصريحة لتجارة العبيد والسياق الأمني المتوتر بعد مقاومة الشيخ بوعمامة.


تُبيّن الوثيقة وصول القافلة إلى قصور ڨورارة (أولاد عيسى، شروين، الخنافسة، أولاد راشد، السهلة المطارفة، أبرينكات، بودة)، بعضها بقي قائما إلى اليوم وبعضها اندثر. ففي هذه القصور تمت عمليات "الكيل" و"المكوث"، مما يؤكد أنَّها كانت أسواقا ومحطات لتفريغ البضائع وإعادة التزود.

كما سجلت لقاء القافلة في قصر أولاد عيسى مع قفل الرزاينة الغُرابة والشراقة وبني مطهر من حكم تراب سعيدة، وهو مؤشر على شبكة تجارية واسعة تتقاطع فيها قوافل من مناطق متعددة في تبادل منظم ومترابط.


المبيت في "سيدي براهيم فم العرڨ" (عند فم العرق الرملي الكبير) يؤكد أن القافلة اضطرت لاجتياز كثبان رملية هائلة تشكل تحديا لوجستيا جسيما، وتستلزم جهدًا إضافيا لحمل الماء والأحمال الثقيلة. وتُسجل الوثيقة بدقة مصادر المياه، فتتكرر عبارات مثل: «فيه الماء»، «رفدوا الماء من...» و«ليس فيه الماء»؛ فاضطرت القافلة، على سبيل المثال، إلى التزود من "الآثلاث" لتغطية مراحل متتالية، بما في ذلك المبيت في "سيدي براهيم فم العرڨ" و"الختيتيلة" و"ربط أولاد نهار" حيث لم يكن الماء متوفر. هذا الوصف يجسّد معاناة الطريق وحقيقة ندرة الماء، وضرورة حملها مع ثقل الأحمال، ويبرز المعرفة العميقة بمسالك الصحراء — دلالة على استمرارية الخبرة المحلية رغم بدايات السيطرة الاستعمارية.

ويبدو أن كاتب الوثيقة — على الأرجح عون فرنسي أو مخبّر محلي تابع للإدارة — تتبّع المراحل اليومية بدقة، خاصة أماكن المبيت ومصادر الماء (الغدير، الحاسي، تيورطلت... )، مما يدلّ أن السلطات الفرنسية كانت تراقب القوافل لأسباب أمنية واقتصادية، خصوصا في زمن الشيخ بوعمامة، الذي يرد اسمه في نهاية السجل بعبارة: «ليس عندي حتى خبر عليه». تعكس هذه الملاحظة محاولات الإدارة الاستعمارية تتبع طرق الإمداد والاتصال بين القبائل، كما أن توثيق اللقاء مع قافلة الرزاينة دون تعامل يُظهر حذر متبادل في مرحلة سياسية متوترة. ذكر بوعمامة يضع الرحلة في سياق ملاحقة وهدوء حذر عقب المعارك الكبرى.

تجارة العبيد (البعد الاجتماعي والاقتصادي)

تؤكد الوثيقة صراحة البعد الاجتماعي والاقتصادي لتجارة الرقيق، إذ أحضرت القافلة أربعة عبيد وأربعة خدم. وتدلُّ الأسماء المسجلة للمشترين (بما في ذلك كبير القافلة) على أن امتلاك العبيد والخدم كان حكرا على أكابر القوم والتجار الأثرياء. وتورد الوثيقة أن الأسعار تراوحت بين 60 و84 دورو؛ على سبيل المثال اشترى كبير القافلة عبدًا بسبعين دورو. وقد سُجلت هذه المعاملات بنبرة عادية من دون استنكار، ما يوضح أنها كانت ممارسة اجتماعية واقتصادية عادية مألوفة في زمنها، قبل أن تُجرَّم رسميا عد ذلك بسنوات طويلة. تعكس الأسعار العليا قيمة المملوكين كجزء من الثروة والتبادل، وتبرز بنية اجتماعية هرمية تجعل تجارة الرقيق امتيازا محصورا في أوساط النخبة.

بهذا، تُجسّد الوثيقة لوحة واقعية دقيقة لحركة القوافل، ومعرفة الصحراء، وتوازن القوى بين المحلي والاستعماري، في زمن ظلّ فيه الاقتصاد الصحراوي نابضًا رغم شح الماء وقيود الاحتلال.


ملاحظة هامة:

الإشارات إلى تجارة العبيد كما وردت في الوثيقة، تقرأ في إطارها التاريخي وضمن سياقها الاقتصادي آنذاك، لا كتبرير ولا كإدانة، ودون إسقاط لأحكام أخلاقية من منظور اليوم، بل كشهادة على واقع اجتماعي مضى.

نص الوثيقة:

12 فيفري 

1890م

ڨفل البكاكرة القادم من ڨورارة

كبير القافلة عبد القادر ولد المامون

اليوم الأول من دوارهم باتوا في ضلعة عيسى رفدوا الماء من تيورطلت اليوم الثاني باتوا في حجاج فيه الماء، اليوم الثالث باتوا ارجم المواعيد رفدوا الماء من حجاج اليوم الرابع باتوا فالڨارة الغشوا، رفدوا الماء من مغرار التحتاني ،اليوم الخامس باتوا في سيدي براهيم اڨريش فيه الماء، اليوم السادس باتوا فالاوتيدات فيها الماء، اليوم السابع باتوا في مشرع بوسير وجدوا فيه الماء نتاع الغدير، اليوم الثامن باتوا في ابويب الرحايل رفدوا الماء من مشرع بوسير غدير، اليوم التاسع باتوا في المعمورة ظلوا فيها يومين وفيها الغدير، اليوم العاشر باتوا فالزاوش فيه لغدير، اليوم الحادي عشر باتوا الاثلاث فيه الغدير، اليوم الثاني عشر باتوا في جرف الاطفال رفدوا الماء من الاثلاث، اليوم الثالث عشر باتوا في زملت منصور رفدوا الماء من الاثلاث، اليوم الرابع عشر باتوا في سيدي براهيم فم العرڨ ليس فيه الماء رفدوا الماء من الاثلاث اليوم الخامس عشر باتوا الختيتيلة غريم الماء من الاثلاث، اليوم السادس عشر باتوا ربط اولاد نهار غريم الماء من الاثلاث، اليوم السابع عشر باتوا الزكار فيه الماء حاسي، اليوم الثامن عشر باتوا الثمايد فيها الماء، اليوم التاسع عشر باتوا في اولاد عيسى من قصور ڨورارة فيها الماء، كانوا يومين في اولاد عيسى ويوم العشرين افترقوا البعض من الڨفل ذهب إلى شروين والبعض ذهب إلى الخنافسة وبهذه القصور كيلوا، والكثير من الڨفل ذهبوا في اليوم الحادي والعشرين باتوا في الظمرانة رفدوا الماء من تاسفاوت، اليوم الثاني والعشرين باتوا في اولاد راشد فيها الماء وفيه كيل البعض ومكث فيه، وفي اليوم الثالث والعشرين باتوا في السهلة المطارفة زوج قصور وفيها بقي البعض وكيّل، واليوم الرابع والعشرين باتوا في ابرينكات فيها الماء وبقي البعض من الڨفل وكيّلوا منه، وفي اليوم الخامس والعشرين باتوا الْغُرَيسَة حاسي فيه الماء، ويوم السادس والعشرين باتوا في بودة وفيها كيلوا ومكثوا أربعة عشر يوم ويوم الخامس عشر خرجوا من بودة ورجعوا على طريقهم الأولى حتى الى اولاد عيسى، من بودة إلى اولاد عيسى مسيرة سبعة أيام ومكثوا فيه يومين واليوم الثالث خرجوا وباتوا في حاسي حيدة فيه الماء، اليوم الرابع باتوا حاسي العمارة فيه الماء ومن العمارة جاؤوا على طريقم الأولى حتى إلى دوارهم.

في قصر اولاد عيسى تلاقاوا مع ڨفل الرزاينة الغرابة والشراڨة وبني مطهر من حكم تراب سعيدة ولم يتكلموا على شيئ.

وأتوا بأربعة عبيد وأربعة خدم

كبير الڨافلة عبد القادر ولد المامون اشترى عبد ب سبعين دورو

العربي ولد عبد الله بن مراح، عبد ب اثنين وسبعين دورو

عيسى ولد محمد، عبد ب ستين دورو

علي بن غربال، عبد ب ستين دورو

العربي ولد الطيب اشترى خادم ب ثمانين دورو 

بن الطيب ولد العربي، خادم ب ثمانين دورو

بن احمد ولد احمد بن الزين، خادم ب اربعة وثمانين دورو

سليمان ولد بن احمد، خادم ب سبعين دورو. 

اخبار بوعمامة قال ليس عندي حتى خبر عليه ولا سمع عليه شيئ ولا رءاه. 

انتهى نص الوثيقة. 

أحمد عقون أكتوبر 2025

 من حكايات قريتنا: 

.. پاتيسري القرية؛ فرحة الطين والماء


أواخر ثمانينات القرن الماضي، حين كانت الحياة تسير على فطرتها الأولى، كانت قريتنا "تيوت" تنام باكرا مع غروب الشمس، ساكنة كرضيع في حضن أمه. لا طرقات معبّدة، ولا أعمدة إنارة، ولا شبكة مياه أو غاز، بل بيوت متراصّة بُنيت من حجارة حمراء اقتلعت من هضبة مجاورة. كان كل شيء أحمر ياجوريا: الأرض، البيوت، الهضبة… حتى يخيل إليك أن القرية قطعة من صخر خرجت من قصة قديمة من قصص مخائيل نعيمة.

مع الفجر، يصدح صوت عمي حمو سالم رحمه الله، يؤذن من غير مكبر، صوته الجهوري يوقظ النائمين، يدعو الفلاحين والرعاة إلى نهاراتهم الطويلة. فيصلي مع أهل المسجد العتيق ثم يجر عربته "البرويطة" ليجمع قمامة الحي وحده. يظل يدور جيئة وذهابا حتى تشرق الشمس، وحين تكتمل، يكون الحي نقيا كأنه اغتسل بماء المطر، فيعود عمي حمو سالم الى بيته بعد أن نظف القلوب والبيوت.. 

أما نحن الأطفال، فكنا نستيقظ مع شروق الشمس، نشرب القهوة ونتناول خبز "كوشة الطين" الساخن الذي أعدّته أمهاتنا، خبز يخرج من الجمر كأنه قطعة جبن طري. ثم نخرج للعب؛ صديقي عيسى يحفر الأرض ببالة صنعها من علبة طماطم مسطحة في جريدة نخلة، ونصرو يركض وراء إطار عجلة يقوده بسلك معقوف، أما أنا فأقود عربتي الصغيرة من أسلاك وقش. لا نعرف للملل اسما ولا للوقت معنى، كنا نملأ النهار كله لعبا وضحكا.

غير أنّ أجمل لحظات الأسبوع كانت صباح الجمعة. كنا ننتظر نهاية القرية بلهفة، لعلّ طيف أخي الكبير محمد يطل عائدا من المدينة. كان يعمل مساعد خباز في مخبزة جماط بالعين الصفراء، فيعود حاملا معه علبة "پاتيسري" من الحلويات الأوربية.. بيضاء مشدودة بخيط بلاستيكي وردي. ما أن نراه حتى ننطلق نحوه نسبق ظلنا وتسبقنا قلوبنا، فنسير معه إلى البيت، وكل بيوت القرية كانت لنا، وكل الأمهات كن أمهاتنا.. تأخذ أمي العلبة بعينيها المضيئتين، ثم تشترط بحزمٍ وحنان:

"لكل واحد قطعة… لكن أولا املأوا الدلاء من سبالة هلال ومن بعد رواحوا.." 

فنحمل "البكابيك" حفاة، ونجري نحو القصر العتيق حيث المنبع. هناك نلتقي أطفال الأحياء الأخرى، وأبناء البدو الذين يسقون على حميرهم بالباونات المصنوعة من المطاط. ننتظر دورنا بصبر مشوب بالفرح، نعرف أنّ الماء هنا مفتاح العيد، وأن في آخر الطريق تنتظرنا الجائزة؛ وحين نعود.. نعود متسخين بالتراب والماء، تستقبلنا أمي بابتسامة كأنها صلاة.. فتمدّ لنا قطع الحلوى. نأكلها بأصابع لا يزال الطين عالقا بها من "سبالة هلال" قطعة صغيرة تجعلنا أمراء الزمان. ولو وجد أحدنا الغفلة لابتلع العلبة كلها، دون أن يعرف وجعًا أو تخمة أو ارتجاعا.. 

... 

كنا نملك كل الفرح في بساطة تلك الأيام: خبز الطين، ماء السّبالة، لعبة من علبة قديمة، وعلبة "پاتيسري" يتيمة ننتظرها أسبوعا. كان اللعب شغلنا الشاغل من شروق الشمس حتى غروبها، وكان الوجود ممتلئا بلا أسئلة.

أما اليوم، وقد صار كل شيء متاحا حتى لأفقر فقير رغم القهر، فلا ندري كيف انهار المعنى وأفل الفرح. 

من يتحدّث عن موت المعنى في أعقد تجلياته، أقول له: لقد سُرق المعنى من الأطفال أولا، حين صودرت ألعاب الطين واستُبدلت بالشاشات واللوحات الرقمية.

المعنى الطفولي كان يلمع في قطعة طين تُشكّل بيدين صغيرتين، أو في ضحكة تنفجر أثناء لعبة جماعية. في الطفولة، لا يحتاج المعنى إلى تنظير، إنه حاضر بكثافة: في كرة تُصنع من جوارب قديمة، أو دمية من قماش مهترئ. هناك يكون الوجود ممتلئا دون سؤال.

أما اليوم فالمعنى يُطرح في الفلسفة لأنه غائب أصلا أو في أحسن حالاته مهدّد. وكأنّ الفلاسفة لا يبحثون إلا في المناطق المظلمة من التجربة، متناسين أن لحظات اللعب والألفة والفرح البدائي هي معان أصيلة. فصار أطفال اليوم – كما نراهم – أسرى روضات الأطفال، ومستلبين منذ البداية. لم يعد هناك مجال لصناعة الكرة من الطين أو العربة من القش، لأن السوق صار يقدّم لعبة مصمّمة، جاهزة، افتراضية. اللعبة لم تعد اكتشافا بل استهلاكا، وهذا الاستلاب المبكر سرق منهم بذور المعنى.

ربما المشكلة ليست في الفلاسفة وحدهم، بل في أنّ مجتمعنا اليوم يفرض عليهم مناطق بحث بعيدة وغيبية، بينما يظلّ "المعنى البسيط" مهملاً، لأنه يُعتبر تافهًا أو بدائيا.. 

قد نجد عند نيتشه إشارة إلى "الطفل" كرمز للبراءة والخلق الجديد، وعند هايدغر حديثا عن "السكن الشعري في العالم"، لكن لم تُبنى فلسفة كبرى بعد على اللعب الطفولي كمنبع للمعنى.

المعنى لم يمت. نحن فقط من نريد أن نعجل موته حين نغفل عن جذوره الأولى: اللعب، الطين، البساطة، ودهشة الأشياء الصغيرة.


أحمد عقون

أوت 2025

التشومي.. حين كان ظهر الأم وطنًا

 من حكايات قريتنا.. البولة الخالدة

التشومي.. حين كان ظهر الأم وطنًا


في قريتنا تيوت، كانت النساء يقلن: "فلانة فَرڨت ولدها"، وكأنهن يعلنّ عبورا جديدا في حياة الطفل. "التشومي" لم يكن مجرد حمل للصغير على ظهر أمه برداء أو حايك، بل هو طقس وجودي يربط الإنسان بأولى خطواته في الحياة، بأول انفصال عن الدفء الساكن إلى دفء الحركة والدوران في فلك الأم والأسرة والجيران.، كانت النساء يمشين وهن يحملن على ظهورهنّ ليس أجسادا صغيرة، بل عوالمَ كاملة من البراءة والأمل؛ فالذكور يُشَلَّمون في الشهر الثالث، والبنات يُمهلن حتى الشهر الرابع. وفي أول مرة يُحمل فيها الرضيع على الظهر، تُقام مراسيم يسمونها "الفْرِيڨ"، أي فَرْقُ الطفل عن مكان ولادته ونومه. وللفتيان كان الفريڨ رمزيًا: فرق رجليه على ظهر أمه إشارةً إلى مستقبله، فارسًا على ظهر جواد.

وللفريڨ طقوسه الدقيقة: لا تحمله الأم في المرة الأولى، بل يُوضع على ظهر صبية صغيرة، لم تبلغ بعد، وغالبا ما تكون أخته أو قريبة له. ثم تطوف به تلك الصبية بين بيوت الجيران والأهل، فيقدمون ما تيسر من الطحين أو السكر أو الشاي أو كْرَامَة من النقود. في نهاية النهار، يُقام احتفال صغير، تُعدّ فيه وليمة صغيرة مما تم جمعه، وتحضر النساء جميعًا لحلقة "فريڨ الطفل" وتشلامه. فينبعث عبير النعناع والشاي الساخن من الأبواب المشرعة، وتعلو أصوات تهاني النساء كزغاريد خافتة، بعد ذلك، يحق لأمه أو باقي نساء البيت أن يحملنه على ظهورهن.


وكانت الحياة اليومية لا تخلو من طرائف التشومي، أذكر ذات يوم كانت خالتي حدّة منهمكة في دبغ هيدورة سيدي عبد القادر الجيلاني في حوشنا تحت أشعة الشمس الدافئة وهي مشومية ابنها على ظهرها، وفجأة شعرت بسائل دافئ يتسلل ببطئ بين الثياب إلى ظهرها، فانتفضت صارخة وقد أدركت أن طفلها قد تبول عليها. هنا انفجر مجلس النسوة بالضحك.. وسارعت خالتي عبّاسة تُخرج الرضيع من لفافة القماش لتتنفس الأم قليلًا بعد الفزع أما البقية فقد دخلن في دوامة هستيرية من الضحك والسخرية.. 

وفي مثل هذه الحالات إن كان مرتكب جريمة التبول ذكرا، خفّ الأمر واعتبرن تنظيفه مؤجلًا. أما إن كانت أنثى، فقد كان لزامًا التعجيل بالغُسل، فالنساء يقلن إن بول البنات أشد نجاسة وعفنًا من بول الصبيان، في رمزيّة تُظهر سطوة الذكورية حتى في النجاسة. لكن الموقف لا يخلو من مرح بسيط: ضحكٌ هستيري، وعتابٌ خفيف.

هكذا، كان ظهر الأم وطنًا آخر للطفل، أقرب إليه من أنفاسه، تُرسَم خريطته بخطوط التعب والعرق والدموع والنجاسة على قميص الأم، وتُزيّنها بقع طعام الطفل وعلامات لعابه، النساء في قريتنا حملن أبناءهن بكل مشقة ولم يجزعن، بل وجدن في تلك الطقوس عزاء وفرحا وسندا يخفف عنهن بؤس الأيام.


أما الآن… فقد ابتعد الأطفال عن صدور الأمهات، وانفصلوا عن دفء الجماعة، ينامون في كرُّوسات باردة، ويُتركون في أسرّة صامتة. وكأن طفولتهم صارت تجربة فردية معزولة، بلا أذرع، بلا دفء بشري وبلا ضحك النساء ولا سخرية الجارات، ولا دفء الأكتاف التي كانت وطنًا صغيرًا، لم يعودوا يتذوقون فرح البساطة الأولى، يوم كان العالم كله يتجسد في ظهر أم، ينهض بهم، ويمشي بهم، ويحملهم في صمتٍ لا يُنسى.. لقد فقدنا "جماعية الفرح" التي كانت تُولد من أبسط المواقف، لنعيش حاضرًا يكثر فيه كل شيء إلا الحميمية، ويقل فيه كل شيء إلا الوحدة، ليصبح العالم أوسعَ مما كان، ولكن قلوبنا أصبحت أصغرَ مما كانت وكأننا وسّعنا الطرقات، لكننا أضعنا الدروب المؤدية إلى بعضنا

فيا له من فرقٍ بين طفلٍ ينام على ظهر أمه ويسمع دقّات قلبها، وطفلٍ في كرسي بلاستيكيٍ بارد! لقد خسرنا ذلك التوازن بين الحماية والاستقلال، بين أن تكون محبوبا ومحاطا بالضحك والحياة، وأن تكون معزولا في سريرك الصامت.


أحمد عقون

سبتمبر 2025

من تاريخ الحيوانات البرية في منطقة ولاية النعامة بالجنوب الغربي الجزائري الأعلى.

 من تاريخ الحيوانات البرية في منطقة ولاية النعامة بالجنوب الغربي الجزائري الأعلى. 

الجزء الأول:


بين نقش صخري يجسّد نمر الأطلس، ووثيقة محفوظة في أرشيف ما وراء البحار الفرنسي، تتشكل أمامنا صفحة نادرة من تاريخ الحياة البرية في المنطقة. 

النقش الصخري:

الصور المرفقة تعود إلى محطة من محطات الصخور المنقوشة الواقعة في جبال الأطلس الصحراوي، يرجع تاريخها إلى العصر الحجري الحديث. تم اكتشاف المحطة سنة 1935 على يد الملازم Ribaut، ونشر وصفا لها عالم ما قبل التاريخ الفرنسي فوفري سنة 1939

. يمثّل النقش نمرا منبسط الجسد في حالة ترصّد كأنه يتهيأ للانقضاض، بدقة طبيعية مدهشة جعلت منه من أروع النقوش الصخرية في الأطلس الصحراوي. ويُعتبر هذا الأثر البصري المادي من أقدم الأدلة على وجود النمر البربري أو الأطلسي في شمال إفريقيا منذ العصر الحجري الحديث.

لحسن الحظ المحطة تحت حراسة مشددة من قبل أحد الأصدقاء من البدو الرحل الذي تطوع لحراستها وتأمينها


:الوثيقة الأرشيفية:

أما الشهادة الثانية فهي وثيقة تعود إلى سنة 1888، محفوظة في سجل الصادر للحاكم الفرنسي لدائرة المشرية، موجّهة إلى قايد أولاد مسعود (من عرش الغياثرة). ونصها:


عليك السلام، وبعد المراد منك أن توجه لنا إلى البرق المسمى الشيخ ولد جلول الذي قتل النمر لنمكن له جائزة. والسلام.


يطلب العقيد حاكم دائرة المشرية، من قائد العرش أن يرسل إليه المدعو الشيخ ولد جلول الذي قتل نمرًا، قصد منحه مكافأة نظير ذلك. وتكشف هذه المراسلة أن النمر كان لا يزال يعيش في المنطقة سنة 1888، وهو على الأرجح النمر البربري أو نمر الأطلس 

(Panthera pardus panthera)،

 الذي كان يُصنّف سابقا نوعا مستقللا للنمر، لكنه يُعتبر اليوم إحدى جمهرات النمر الإفريقي. فقد عاشت هذه الحيوانات تاريخيا في بلادنا، وشكلت جزءا من توازنها البيئي.

إلا أن الوثيقة تُظهر بوضوح أن الإدارة الاستعمارية الفرنسية لم تكن تدرك قيمة هذا الحيوان في تلك الفترة ولم تسعَ لحمايته، بل اعتبرته تهديدا محتملا للمعمريها بدرجة أولى ولقطعان الماشية وللأهالي بدرجة ثانية، فشجّعت على القضاء عليه ومنحت مكافآت لمن يفعل ذلك. 

هكذا يتجاور النقش الحجري من العصر الحجري الحديث مع وثيقة استعمارية من القرن التاسع عشر، ليرسما معًا صورة عن تاريخ النمر البربري في الجنوب الغربي الجزائري الأعلى: من رمز مرسوم على الصخر بدقة فنان قديم، إلى حيوان يُطارَد وتُدفع الجوائز لقتله.

الجزء الثاني سأنشره لاحقًا بحول الله.

تنبيه هام:

لكل من يحاول الدخول في جدال عقيم حول التسميات (النمر البربري، الجمل العربي، الوشق العموري، النسر الحمياني، الغزال الزواوي، الأيل الشاوي…) أو يستعمل التعليقات كذريعة للتحرش أو المساس بهوية أو ثقافة أي منطقة، فليعلم أنّه سيتم حظره مباشرة وبدون نقاش.

هذه التسميات ليست ملكية لأحد، بل هي مجرد إشارات علمية أو تاريخية تحدد موطنًا، أو فترة اكتشاف، أو جماعة بشرية عرفت الحيوان أكثر.

المقصود هنا المعرفة، لا إثبات السيادة أو الأحقية.

.

أحمد عقون

سبتمبر 2025