وثيقة "هلو" من قصر صفيصيفة
..
هل تربط علاقات قرابة خفية بين قصري تيوت وصفيصيفة؟
.
تُقدم لنا وثيقة تاريخية نفيسة، مؤرخة في رجب من عام 1229 للهجرة (الموافق لسنة 1814 ميلادية)، لمحة ثمينة عن التعاملات المدنية والحياة الاجتماعية في منطقة قصور الجنوب الغربي الجزائري قبيل الحقبة الاستعمارية. هذه الوثيقة التي أمدني بها السيد الفاضل جبة عبد القادر القاطن بمدينة العين الصفراء وأحد أعيان بلدة صفيصيفة، هي عبارة عن عقد بيع قطعة أرض فلاحية تُدعى "جماط" كائنة بقصر تيوت، لا تقتصر أهميتها على توثيق معاملة تجارية بين السيد محمد بن الميلود بن علي الصفيصيفي (المشتري) والسيد الطاهر بن هلو التيوتي (البائع)، بل تمتد لتثير إشكاليات عميقة حول الروابط المتشابكة بين سكان القصور المختلفة.
إن التشابه اللافت في أسماء العائلات، وخاصة "أولاد هلو" و "جماط"، بين قصري تيوت وصفيصيفة، كما تشير إليه الوثيقة الأولى، والمعطيات المرافقة حول الوثيقة الثانية المجتزأة (قمت بطمس بقية النص الاعتبارات تاريخية لا يسع المقام لذكرها) التي تكشف عن معطى لافت: العلاقة العائلية التي تربط بعض الشهود، مثل عراج والطاهر بن هلو ومفتاح، والذين تشير الوثيقة إلى أنهم إخوة من فرع "أولاد رحو"، وهي إحدى العائلات العريقة بقصر تيوت، هذا الأمر يفتح الباب على مصراعيه لجملة من التساؤلات الجوهرية:
هل يمكن اعتبار هذا التشابه مجرد مصادفة عابرة؟ أم أنه يحمل في طياته دلالات أعمق تشير إلى جذور مشتركة أو تداخلات سكانية بين القصرين؟
ما يلفت الانتباه هنا هو التقاطع العجيب بين أسماء العائلات الواردة في الوثيقة وبين تلك الموجودة اليوم في قصر صفيصيفة. فعائلة "أولاد هلو"، التي ينتمي إليها البائع الطاهر بن هلو، ما تزال معروفة في قصر تيوت، بينما نجد ذات الاسم حاضرا في قصر صفيصيفة، حيث تتفرع عنها عائلات: هلو، هلاوي، جماط، بوزار، وبوشويشة.
ويزداد هذا التقاطع إلحاحا على التساؤل حين نعلم أن قطعة الأرض محل البيع تُدعى "جماط"، وتقع في منطقة "المحاسر" بجوار أرض تُعرف بأرض هلو بقصر تيوت.
بالنظر إلى أن أرض "جماط" المباعة تقع في قصر تيوت، وأن عائلة "جماط" تُعد اليوم من مكونات "أولاد هلو" بقصر صفيصيفة، فهل يحتمل أن اسم العائلة الأخير مُستمد من اسم هذه الأرض، مما قد يشير إلى انتقال جغرافي أو ارتباط تاريخي ما؟
وهل يمكن أن تكون عائلة "أولاد هلو" في صفيصيفة امتدادا لفرع اولاد هلو من عائلة "أولاد رحو" في قصر تيوت، بما يعنيه ذلك من احتمال وجود جذور قرابية ضاربة في عمق التاريخ بين سكان القصرين؟ أم أن الأمر مجرد مصادفة وتشابه للأسماء فقط؟
تدفعنا هذه المعطيات إلى إعادة التفكير في طبيعة العلاقات الاجتماعية بين قصور المنطقة، لا سيما في فترة ما قبل دخول الاستعمار الفرنسي، حين كانت الروابط القرابية والأنساب تلعب دورا محوريا في تثبيت أنماط الاستقرار والهجرة. فهل شهدت المنطقة حركات انتقال لعائلات من قصر إلى آخر؟ وهل يمكن أن تكون التشابهات في الأسماء دليلا على علاقات مصاهرة أو هجرات عائلية لم توثقها السجلات الرسمية بل بقيت حبيسة الذاكرة الشفوية وما قد يسقط منها سهوا؟
هذه الأسئلة، وإن ظلت دون إجابة قاطعة، تفتح المجال لقراءات تاريخية وأنتروبولوجية معمقة، قد تسهم في فهم ديناميكيات التفاعل بين المجتمعات القصورية في منطقة الهضاب العليا الجزائرية، وتلقي الضوء على خريطة القرابة والمصاهرة والهجرة فيها عبر الزمن.
تحليل الوثيقة:
تُعد هذه الوثيقة شاهدا تاريخيا غفريدا، لا لكونها فقط عقد بيع، بل لأنها تُجسّد نموذجا متكاملا من القيم الحضارية، والدينية، والاجتماعية، التي سادت المجتمعات الجزائرية في مطلع القرن التاسع عشر، في منطقة القصور الصحراوية، التي غالبا ما صوّرها الاستعمار الفرنسي لاحقا كبيئات متخلفة وهمجية، بينما هي –كما يتضح من هذه الوثيقة– مجتمعات ذات تنظيم قانوني ومدني رفيع، ووعي ديني وروحي متين.
الطابع الإسلامي للوثيقة:
الوثيقة تبدأ بصيغة "الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد"، وهي افتتاحية ذات طابع إسلامي تقليدي، تستهل بها المكاتبات الشرعية، والعقود الرسمية، مما يعكس الخلفية الدينية العميقة للمجتمع، ويؤكد مركزية الإسلام في الحياة اليومية والمعاملات الاقتصادية. فهو ليس مجرد شكل، بل يعكس قناعة بأن البركة والتمام لا يكونان إلا بذكر الله والثناء عليه والصلاة على رسوله الكريم، وعبارة "اشترى على بركات الله" تؤكد على استحضار النية الطيبة والسعي للرزق الحلال المبارك فيه من الله.
الصيغة الشرعية للعقد:
حضور القيم والفقه يتضح من متن الوثيقة أن البيع تم وفقا للأحكام الشرعية، وتحديد أطراف العقد بوضوح: "محمد بن ميلود بن علي الصفيصيفي" كمشتري، و"الطاهر بن هلو التيوتي" كبائع. وتحديد المبيع بدقة: ثلثي جنان يُعرف باسم "جماط"، مع ما يسقيه من عين "مسعود"، وذكر موقعه الجغرافي "ناحية القبلة الزقاق"، في صيغة توضح الإحاطة القانونية بالعقار، مع ذكر الثمن: خمسون ديناراً مقبوضة، بما ينفي الجهالة ويؤكد تمام العقد. ذكر "الدينار" كعملة للتعامل يشير إلى وجود نظام نقدي معترف به ومتداول يومها.
استخدام عبارة "بيعا بتا بتا" تفيد القطع واللزوم وعدم الرجوع فيه (إلا بالإقالة الاختيارية المذكورة). وجود شهود عدول وموثوقين فقد تم توثيق العقد بشهادة مجموعة من الشهود المعروفين، وهم: عبد الرحمن بن زيان، عبد الرحمن بن عزوز، حدوش، أحمد بن شافع، الفقير عراج، ويُلاحظ أن الشهود يحملون أسماء عربية أمازيغية شائعة، ومن المرجح أنهم من أهل العدالة والوقار، ما يضفي على العقد طابعا رسميا معززا؛ كما أن وصف الشهود بـ "الفقير" (مثل "الفقير عبد الرحمن بن زيان" و"الفقير عراج")، لا يدل بالضرورة على فقر مادي، بقدر ما هو تعبير عن التواضع الجم والافتقار إلى الله تعالى، وهي سمة من سمات أهل العلم والورع، وهي إشارة إلى انتمائهم لطرق صوفية يُطلق على مريديها "الفقراء"، تربي أتباعها على الزهد والتجرد الروحي.
وصف كاتب الوثيقة لنفسه بـ "عبيد ربه سبحانه محمد بن عبد القادر لطف الله به آمين" يُجسد تواضعا روحيا عميقا، ويعكس نسقا من الأخلاق الصوفية المرتبطة بالخشوع والافتقار إلى رحمة الله.
الإقالة:
دليل على مراعاة المرونة والتسامح في المعاملات، فقد أتى في وسط الوثيقة: "وتطوع بالإقالة له لوجه الله العظيم بعد البيع والقبض ورجاء ثوابه الجسيم"، يُبرز قيمة أخلاقية سامية، حيث يختار البائع فسخ البيع رغم تمامه، رغبة في الأجر والثواب، مما يدل على سعة صدر البائع ونكران الذات وتعاطف اجتماعي رفيع المستوى، يعلي من مبدأ التراضي والرضا في المعاملات. هذا التصرف يتجاوز حدود القانون الوضعي إلى رحاب الفضل والإحسان، مصداقا للآية الكريمة "والله لا يضيع أجر المحسنين"
التنظيم المدني في القصور الصحراوية:
دحض الافتراءات الاستعمارية: تُعتبر هذه الوثيقة، وغيرها من آلاف الوثائق المماثلة، ردا بليغا على المزاعم الاستعمارية التي صورت الشعب الجزائري على أنه شعب همجي يفتقر إلى التنظيم والقانون. بل على العكس، تُثبت هذه الوثيقة وجود مجتمع منظم، له مؤسساته وأعرافه وقوانينه المستمدة من الشريعة الإسلامية والتقاليد المحلية العريقة، بل يتضح هنا أنّ المجتمع كان يملك:عقودا مكتوبة، نظاما للشهادة والتوثيق، إجراءات قانونية متفق عليها، إشرافا من أشخاص معروفين بالعدالة والدين.
أهمية الماء في مجتمعات القصور:
النص على "ما يسقيه من الماء من العين المسماة بمسعود" يؤكد على الأهمية الحيوية للماء في المناطق الصحراوية والواحات، وأن حقوق الماء كانت جزءا لا يتجزأ من ملكية الأرض الزراعية، وتُباع وتُشترى معها.
مصطلحات محلية تدل على التجذر في المكان:
ذكر العين المائية "عين مسعود" اسم الحي أو الموقع "الزقاق من ناحية القبلة" اسم الجنان "جماط"كل هذه الأسماء والمصطلحات تعكس معرفة دقيقة بالجغرافيا المحلية، وشعورا بالانتماء المكاني، وتدل على اقتصاد فلاحي محلي قائم على استغلال الماء والأرض، في بيئة جافة تحتاج إلى تنظيم دقيق للمورد المائي.
حقوق المرأة المالية:
إن الإشارة إلى أن "تلك الجنان المذكور لمحمد المكنى خشة الصغير من دراهم امه" لهي فائدة جليلة. فهي تدل على الأهلية المالية للمرأة، وأن لها ذمة مالية مستقلة، وأنها تستطيع أن تملك المال وتتصرف فيه، بل وتشتري عقارات لأبنائها. هذا يدحض أي ادعاءات بتهميش دور المرأة اقتصاديا في تلك المجتمعات.
التاريخ الهجري والاستقلال المعرفي:
تأريخ الوثيقة بـ"أوائل رجب الفرد عام تسعة وعشرين بعد المائتين وألف"، يُظهر اعتماد التقويم الهجري كمرجعية زمنية، هذا يعكس استقلالية معرفية وثقافية عن التأريخ الغربي، ويجذر الوثيقة في البنية الإسلامية للمجتمع.
التفريق بين إتمام البيع الفعلي وتحرير الرسم (الوثيقة):
عبارة "تقدم البيع وتأخر الرسم إلى حين" تكشف عن ممارسة قانونية دقيقة، حيث يتم البيع الفعلي (الإيجاب والقبول والتسليم والقبض) أولا، ثم يُحرر العقد الكتابي لاحقا كإثبات. هذا يدل على مرونة النظام وقبوله للمعاملات القائمة على الثقة والتي تُعزّز لاحقا بالتوثيق الرسمي.
تُعد هذه الوثيقة أكثر من مجرد عقد بيع: إنها نصّ حضاري متكامل، يكشف عن نضج اجتماعي، واستقرار قانوني، وروح دينية، ونُظم موثقة كانت سائدة في القصور الجزائرية الصحراوية قبل دخول الاستعمار الفرنسي، إنها تمثل دليلا ماديا على أن المجتمع الجزائري، حتى في أقاصي الصحراء، لم يكن يعيش في فوضى أو بدائية، بل كان متمسكا بمرجعيته الإسلامية، ومنظومته الفقهية، ومتجذرا في أرضه وتقاليده، بما يرد الاعتبار للتاريخ الحقيقي لهذا الشعب.
.
نص الوثيقة الأولى:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على سيدنا محمد
الحمد لله اشترى على بركات الله محمد بن ميلود بن علي الصفيصيفي من البائع له الطاهر بن هلو التيوتي ثلثين من جنانه المسمى بجماط بثمن مبلغه ومنتهى قدره وما يسقيه من الماء من العين المسماة بمسعود وتلك الجنان من ناحية القبلة الزقاق وشهرته أغنت عن تحديده وبجميع منافعه الداخلة فيه والخارجة عنه والثمن خمسين دينارا مقبوضة من يد المبتاع الى يد البائع بيعا بتا بتا بشهادة الفقير عبد الرحمن بن زيان وعبد الرحمن بن عزوز وبن حدوش واحمد بن شافع والفقير عراج وتطوع بالإقالة له لوجه الله العظيم بعد البيع والقبض ورجاء ثوابه الجسيم والله لا يضيع أجر المحسنين وتلك الجنان المذكور لمحمد المكنى خشة الصغير من دراهم امه بتاريخ أوائل رجب الفرد عام تسعة وعشرين بعد المائتين وألف عبيد ربه سبحانه محمد بن عبد القادر لطف الله به آمين
تقدم البيع وتأخر الرسم إلى حين
انتهى
...
نص الوثيقة الثانية المجتزأ:
عراج وأخويه مفتاح والطاهر بن هلو وابن عمه حدوش ومن اولاد سيدي عيسى السيد احمد وابن عمه السيد محمد بن عيسى وأبناء أخيه...الخ
انتهى:
أحمد عقون جوان 2025