كبش بوعلام

 كبش بوعلام والقرن الدائري: ملاحظة أنثروبولوجية في ضوء الميثولوجيا الأمازيغية القديمة.. 

أصدقائي أساتذتي.. أولا: عيد أضحى مبارك، أعاده الله علينا وعليكم بالخير واليمن والبركات.

ثانيا: بهذه المناسبة السعيدة أحببت أن أقاسمكم منشور حول محطة من أروع محطات الفن الصخري الجزائري. وهي محطة كبش بوعلام التابعة لبلدية بوعلام ولاية البيض. 

تشهد محطة "بوعلام" للنقوش الصخرية، الواقعة غرب بلدية بوعلام بولاية البيض، على حضور رمزي موغل في القدم، لا سيما في تصوير الكبش وقرونه الدائرية. هذه المحطة، التي اكتشفها لأول مرة الجيولوجي الفرنسي جورج فلامون سنة 1898، نالت شهرة واسعة في الأوساط البحثية، وقد خضعت لدراسات عديدة، ما يجعل الخوض في تفاصيلها أمرا معروفا للمهتمين، لكنه لا يمنع من التوقف عند بعد رمزي وثقافي لم يسلط عليه الضوء بما يكفي: البعد الأنثروبولوجي والميثولوجي المتعلق بالقرن الدائري للكباش.

يعتبر الكبش أحد الرموز المقدسة في المعتقدات القديمة لسكان شمال إفريقيا. فقد أشار هيرودوت إلى أن الأمازيغ قدسوا الكبش وقرنيه، ومن المعلوم أن عبادة الكبش لم تظل محصورة في موطنها الأصلي، بل عبرت جغرافيا وزمنيا إلى مناطق أخرى، خاصة إلى مصر القديمة، حيث اتخذ الإله آمون – إله الشمس والريح والخصوبة – هيئة الكبش، وأحيانا مزيجا بين شكل بشري وتاج يعلوه قرص شمسي تتفرع عنه قرون؛ هذا القرص الدائري المميز يظهر في العديد من محطات النقوش الصخرية المنتشرة عبر الأطلس الصحراوي الجزائري، بدءا من تيوت (أول محطة تكتشف عالميا 1847)، مرورا بأم البرايم بجنين بورزڨ، ثم أم الشڨاڨ بالمحررة، وبوسمغون..الخ وصولا إلى كبش بوعلام. في كل هذه المحطات يتكرر حضور الكبش المقرن، تعلو رأسه دائرة تحاكي القرص الشمسي، وكأنها استعادة بصرية رمزية لصورة الإله آمون.

ما يثير الانتباه أيضا أن شكل "القرن الحلزوني" للكباش، والذي يُعرف علميا بـ قرن آمون (spiral horn)، ألهم حتى تسمية بعض الكائنات في علم الأحياء، مثل الأمونيت (Ammonite)، وهو كائن بحري منقرض اتخذ اسمه بسبب تماثل شكل صدفته الحلزونية مع قرن آمون المعقوف، كما ورد في موسوعة ويكيبيديا.

لسانيا، من المثير للتأمل أن كلمة "آمون" تبدأ بحرف الألف، وهو في الفونيتيك الأمازيغي يشبه أداة التعريف، كما في: أغروم، أيسوم، آمان (الماء). والماء في ذاته يمثل رمزا للخصب والحياة، وقد يكون هذا التقاطع بين الدلالة والصوت هو ما منح كلمة "آمون" طابعا مقدسا متجذرا في الوعي الأمازيغي القديم. فالألف والواو والياء، كحروف علة، كثيرا ما تلعب دورا محوريا في قلب دلالات الألفاظ في اللغات القديمة.

ويضيف القديس أثناسيوس، في القرن الرابع الميلادي، بعدا تاريخيامهما، حين يذكر أن "الليبيين" – وهم سكان شمال إفريقيا الأوائل – كانوا يعبدون الشاة ويسمونها أمن (Amen)، ويصفون قرني الكبش بـ"الإله آمون".

وما يدهش الباحث هو استمرار هذه الرمزية حتى الأزمنة القريبة، ففي واحات القصور الممتدة من تيوت إلى عسلة ومغرار وما جاورها، كان الشيوخ والعجائز يعلقون قرون الكباش المعقوفة على أغصان أشجار التين والرمان أو على أسطح البيوت، اعتقادا منهم بقدرتها على طرد الأرواح الشريرة والحسد. هذا الطقس الشعبي يبرز كامتداد حي لذاكرة ميثولوجية عميقة، تنقل معنى الحماية والخصوبة والقوة من جيل إلى آخر، عبر القرن.

وفي سياق الحديث عن القرن، يطرح سؤال لغوي وثقافي يفتح المجال أمام مزيد من البحث المقارن: هل يمكن أن تكون هناك علاقة دلالية أو جذرية بين الكلمة الإنجليزية Horny التي تعني "الشبق الجنسي"، وكلمة Horn التي تعني "القرن"؟ خاصة أن الثقافة اليونانية القديمة ربطت بين قرون الحيوان والخصوبة والقوة، كما في حالة الإسكندر الأكبر الذي صُوّر بقرون كبش على العملات المعدنية، في إشارة إلى انحداره الرمزي من زيوس-آمون، هذا الإله الذي يجمع بين زيوس الإغريقي وآمون المصري، والذي يُرمز له غالبا بالقرون.

هكذا، يبرز القرن الدائري في صورته المحفورة في الصخر، وفي ذاكرة الناس، وفي طقوسهم اليومية، لا كعنصر زخرفي أو رمزي عابر، بل كعلامة حية من علامات ميثولوجيا شمال إفريقيا القديمة، التي ما تزال تتردد أصداؤها في تفاصيل الثقافة الشعبية حتى اليوم.

أحمد عقون

جوان 2025



وثيقة "هلو" من قصر صفيصيفة

 وثيقة "هلو" من قصر صفيصيفة



..

هل تربط علاقات قرابة خفية بين قصري تيوت وصفيصيفة؟

تُقدم لنا وثيقة تاريخية نفيسة، مؤرخة في رجب من عام 1229 للهجرة (الموافق لسنة 1814 ميلادية)، لمحة ثمينة عن التعاملات المدنية والحياة الاجتماعية في منطقة قصور الجنوب الغربي الجزائري قبيل الحقبة الاستعمارية. هذه الوثيقة التي أمدني بها السيد الفاضل جبة عبد القادر القاطن بمدينة العين الصفراء وأحد أعيان بلدة صفيصيفة، هي عبارة عن عقد بيع قطعة أرض فلاحية تُدعى "جماط" كائنة بقصر تيوت، لا تقتصر أهميتها على توثيق معاملة تجارية بين السيد محمد بن الميلود بن علي الصفيصيفي (المشتري) والسيد الطاهر بن هلو التيوتي (البائع)، بل تمتد لتثير إشكاليات عميقة حول الروابط المتشابكة بين سكان القصور المختلفة.

إن التشابه اللافت في أسماء العائلات، وخاصة "أولاد هلو" و "جماط"، بين قصري تيوت وصفيصيفة، كما تشير إليه الوثيقة الأولى، والمعطيات المرافقة حول الوثيقة الثانية المجتزأة (قمت بطمس بقية النص الاعتبارات تاريخية لا يسع المقام لذكرها) التي تكشف عن معطى لافت: العلاقة العائلية التي تربط بعض الشهود، مثل عراج والطاهر بن هلو ومفتاح، والذين تشير الوثيقة إلى أنهم إخوة من فرع "أولاد رحو"، وهي إحدى العائلات العريقة بقصر تيوت، هذا الأمر يفتح الباب على مصراعيه لجملة من التساؤلات الجوهرية:

هل يمكن اعتبار هذا التشابه مجرد مصادفة عابرة؟ أم أنه يحمل في طياته دلالات أعمق تشير إلى جذور مشتركة أو تداخلات سكانية بين القصرين؟

ما يلفت الانتباه هنا هو التقاطع العجيب بين أسماء العائلات الواردة في الوثيقة وبين تلك الموجودة اليوم في قصر صفيصيفة. فعائلة "أولاد هلو"، التي ينتمي إليها البائع الطاهر بن هلو، ما تزال معروفة في قصر تيوت، بينما نجد ذات الاسم حاضرا في قصر صفيصيفة، حيث تتفرع عنها عائلات: هلو، هلاوي، جماط، بوزار، وبوشويشة.

ويزداد هذا التقاطع إلحاحا على التساؤل حين نعلم أن قطعة الأرض محل البيع تُدعى "جماط"، وتقع في منطقة "المحاسر" بجوار أرض تُعرف بأرض هلو بقصر تيوت. 

بالنظر إلى أن أرض "جماط" المباعة تقع في قصر تيوت، وأن عائلة "جماط" تُعد اليوم من مكونات "أولاد هلو" بقصر صفيصيفة، فهل يحتمل أن اسم العائلة الأخير مُستمد من اسم هذه الأرض، مما قد يشير إلى انتقال جغرافي أو ارتباط تاريخي ما؟ 

وهل يمكن أن تكون عائلة "أولاد هلو" في صفيصيفة امتدادا لفرع اولاد هلو من عائلة "أولاد رحو" في قصر تيوت، بما يعنيه ذلك من احتمال وجود جذور قرابية ضاربة في عمق التاريخ بين سكان القصرين؟ أم أن الأمر مجرد مصادفة وتشابه للأسماء فقط؟ 

تدفعنا هذه المعطيات إلى إعادة التفكير في طبيعة العلاقات الاجتماعية بين قصور المنطقة، لا سيما في فترة ما قبل دخول الاستعمار الفرنسي، حين كانت الروابط القرابية والأنساب تلعب دورا محوريا في تثبيت أنماط الاستقرار والهجرة. فهل شهدت المنطقة حركات انتقال لعائلات من قصر إلى آخر؟ وهل يمكن أن تكون التشابهات في الأسماء دليلا على علاقات مصاهرة أو هجرات عائلية لم توثقها السجلات الرسمية بل بقيت حبيسة الذاكرة الشفوية وما قد يسقط منها سهوا؟

هذه الأسئلة، وإن ظلت دون إجابة قاطعة، تفتح المجال لقراءات تاريخية وأنتروبولوجية معمقة، قد تسهم في فهم ديناميكيات التفاعل بين المجتمعات القصورية في منطقة الهضاب العليا الجزائرية، وتلقي الضوء على خريطة القرابة والمصاهرة والهجرة فيها عبر الزمن.

تحليل الوثيقة:

تُعد هذه الوثيقة شاهدا تاريخيا غفريدا، لا لكونها فقط عقد بيع، بل لأنها تُجسّد نموذجا متكاملا من القيم الحضارية، والدينية، والاجتماعية، التي سادت المجتمعات الجزائرية في مطلع القرن التاسع عشر، في منطقة القصور الصحراوية، التي غالبا ما صوّرها الاستعمار الفرنسي لاحقا كبيئات متخلفة وهمجية، بينما هي –كما يتضح من هذه الوثيقة– مجتمعات ذات تنظيم قانوني ومدني رفيع، ووعي ديني وروحي متين.

الطابع الإسلامي للوثيقة:

الوثيقة تبدأ بصيغة "الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد"، وهي افتتاحية ذات طابع إسلامي تقليدي، تستهل بها المكاتبات الشرعية، والعقود الرسمية، مما يعكس الخلفية الدينية العميقة للمجتمع، ويؤكد مركزية الإسلام في الحياة اليومية والمعاملات الاقتصادية. فهو ليس مجرد شكل، بل يعكس قناعة بأن البركة والتمام لا يكونان إلا بذكر الله والثناء عليه والصلاة على رسوله الكريم، وعبارة "اشترى على بركات الله" تؤكد على استحضار النية الطيبة والسعي للرزق الحلال المبارك فيه من الله.

الصيغة الشرعية للعقد:

حضور القيم والفقه يتضح من متن الوثيقة أن البيع تم وفقا للأحكام الشرعية، وتحديد أطراف العقد بوضوح: "محمد بن ميلود بن علي الصفيصيفي" كمشتري، و"الطاهر بن هلو التيوتي" كبائع. وتحديد المبيع بدقة: ثلثي جنان يُعرف باسم "جماط"، مع ما يسقيه من عين "مسعود"، وذكر موقعه الجغرافي "ناحية القبلة الزقاق"، في صيغة توضح الإحاطة القانونية بالعقار، مع ذكر الثمن: خمسون ديناراً مقبوضة، بما ينفي الجهالة ويؤكد تمام العقد. ذكر "الدينار" كعملة للتعامل يشير إلى وجود نظام نقدي معترف به ومتداول يومها. 

استخدام عبارة "بيعا بتا بتا" تفيد القطع واللزوم وعدم الرجوع فيه (إلا بالإقالة الاختيارية المذكورة). وجود شهود عدول وموثوقين فقد تم توثيق العقد بشهادة مجموعة من الشهود المعروفين، وهم: عبد الرحمن بن زيان، عبد الرحمن بن عزوز، حدوش، أحمد بن شافع، الفقير عراج، ويُلاحظ أن الشهود يحملون أسماء عربية أمازيغية شائعة، ومن المرجح أنهم من أهل العدالة والوقار، ما يضفي على العقد طابعا رسميا معززا؛ كما أن وصف الشهود بـ "الفقير" (مثل "الفقير عبد الرحمن بن زيان" و"الفقير عراج")، لا يدل بالضرورة على فقر مادي، بقدر ما هو تعبير عن التواضع الجم والافتقار إلى الله تعالى، وهي سمة من سمات أهل العلم والورع، وهي إشارة إلى انتمائهم لطرق صوفية يُطلق على مريديها "الفقراء"، تربي أتباعها على الزهد والتجرد الروحي.

وصف كاتب الوثيقة لنفسه بـ "عبيد ربه سبحانه محمد بن عبد القادر لطف الله به آمين" يُجسد تواضعا روحيا عميقا، ويعكس نسقا من الأخلاق الصوفية المرتبطة بالخشوع والافتقار إلى رحمة الله.

الإقالة:

دليل على مراعاة المرونة والتسامح في المعاملات، فقد أتى في وسط الوثيقة: "وتطوع بالإقالة له لوجه الله العظيم بعد البيع والقبض ورجاء ثوابه الجسيم"، يُبرز قيمة أخلاقية سامية، حيث يختار البائع فسخ البيع رغم تمامه، رغبة في الأجر والثواب، مما يدل على سعة صدر البائع ونكران الذات وتعاطف اجتماعي رفيع المستوى، يعلي من مبدأ التراضي والرضا في المعاملات. هذا التصرف يتجاوز حدود القانون الوضعي إلى رحاب الفضل والإحسان، مصداقا للآية الكريمة "والله لا يضيع أجر المحسنين"

التنظيم المدني في القصور الصحراوية:

دحض الافتراءات الاستعمارية: تُعتبر هذه الوثيقة، وغيرها من آلاف الوثائق المماثلة، ردا بليغا على المزاعم الاستعمارية التي صورت الشعب الجزائري على أنه شعب همجي يفتقر إلى التنظيم والقانون. بل على العكس، تُثبت هذه الوثيقة وجود مجتمع منظم، له مؤسساته وأعرافه وقوانينه المستمدة من الشريعة الإسلامية والتقاليد المحلية العريقة، بل يتضح هنا أنّ المجتمع كان يملك:عقودا مكتوبة، نظاما للشهادة والتوثيق، إجراءات قانونية متفق عليها، إشرافا من أشخاص معروفين بالعدالة والدين.

أهمية الماء في مجتمعات القصور:

النص على "ما يسقيه من الماء من العين المسماة بمسعود" يؤكد على الأهمية الحيوية للماء في المناطق الصحراوية والواحات، وأن حقوق الماء كانت جزءا لا يتجزأ من ملكية الأرض الزراعية، وتُباع وتُشترى معها.

مصطلحات محلية تدل على التجذر في المكان:

ذكر العين المائية "عين مسعود" اسم الحي أو الموقع "الزقاق من ناحية القبلة" اسم الجنان "جماط"كل هذه الأسماء والمصطلحات تعكس معرفة دقيقة بالجغرافيا المحلية، وشعورا بالانتماء المكاني، وتدل على اقتصاد فلاحي محلي قائم على استغلال الماء والأرض، في بيئة جافة تحتاج إلى تنظيم دقيق للمورد المائي.

حقوق المرأة المالية:

إن الإشارة إلى أن "تلك الجنان المذكور لمحمد المكنى خشة الصغير من دراهم امه" لهي فائدة جليلة. فهي تدل على الأهلية المالية للمرأة، وأن لها ذمة مالية مستقلة، وأنها تستطيع أن تملك المال وتتصرف فيه، بل وتشتري عقارات لأبنائها. هذا يدحض أي ادعاءات بتهميش دور المرأة اقتصاديا في تلك المجتمعات.

التاريخ الهجري والاستقلال المعرفي:

تأريخ الوثيقة بـ"أوائل رجب الفرد عام تسعة وعشرين بعد المائتين وألف"، يُظهر اعتماد التقويم الهجري كمرجعية زمنية، هذا يعكس استقلالية معرفية وثقافية عن التأريخ الغربي، ويجذر الوثيقة في البنية الإسلامية للمجتمع.

التفريق بين إتمام البيع الفعلي وتحرير الرسم (الوثيقة):

عبارة "تقدم البيع وتأخر الرسم إلى حين" تكشف عن ممارسة قانونية دقيقة، حيث يتم البيع الفعلي (الإيجاب والقبول والتسليم والقبض) أولا، ثم يُحرر العقد الكتابي لاحقا كإثبات. هذا يدل على مرونة النظام وقبوله للمعاملات القائمة على الثقة والتي تُعزّز لاحقا بالتوثيق الرسمي.

تُعد هذه الوثيقة أكثر من مجرد عقد بيع: إنها نصّ حضاري متكامل، يكشف عن نضج اجتماعي، واستقرار قانوني، وروح دينية، ونُظم موثقة كانت سائدة في القصور الجزائرية الصحراوية قبل دخول الاستعمار الفرنسي، إنها تمثل دليلا ماديا على أن المجتمع الجزائري، حتى في أقاصي الصحراء، لم يكن يعيش في فوضى أو بدائية، بل كان متمسكا بمرجعيته الإسلامية، ومنظومته الفقهية، ومتجذرا في أرضه وتقاليده، بما يرد الاعتبار للتاريخ الحقيقي لهذا الشعب.

.

نص الوثيقة الأولى:  

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على سيدنا محمد 

الحمد لله اشترى على بركات الله محمد بن ميلود بن علي الصفيصيفي من البائع له الطاهر بن هلو التيوتي ثلثين من جنانه المسمى بجماط بثمن مبلغه ومنتهى قدره وما يسقيه من الماء من العين المسماة بمسعود وتلك الجنان من ناحية القبلة الزقاق وشهرته أغنت عن تحديده وبجميع منافعه الداخلة فيه والخارجة عنه والثمن خمسين دينارا مقبوضة من يد المبتاع الى يد البائع بيعا بتا بتا بشهادة الفقير عبد الرحمن بن زيان وعبد الرحمن بن عزوز وبن حدوش واحمد بن شافع والفقير عراج وتطوع بالإقالة له لوجه الله العظيم بعد البيع والقبض ورجاء ثوابه الجسيم والله لا يضيع أجر المحسنين وتلك الجنان المذكور لمحمد المكنى خشة الصغير من دراهم امه بتاريخ أوائل رجب الفرد عام تسعة وعشرين بعد المائتين وألف عبيد ربه سبحانه محمد بن عبد القادر لطف الله به آمين 

تقدم البيع وتأخر الرسم إلى حين 

انتهى 

...  

نص الوثيقة الثانية المجتزأ: 

عراج وأخويه مفتاح والطاهر بن هلو وابن عمه حدوش ومن اولاد سيدي عيسى السيد احمد وابن عمه السيد محمد بن عيسى وأبناء أخيه...الخ 

انتهى:

أحمد عقون جوان 2025


في ظلال الركب الهشتوكي: ملاحظات أنثروبولوجية وبيئية من القرن السابع عشر جنوب الأطلس الصحراوي .

 في ظلال الركب الهشتوكي: ملاحظات أنثروبولوجية وبيئية من القرن السابع عشر جنوب الأطلس الصحراوي

.

النص هذا وثيقة فريدة ومركبة، وهو مقتطف من رحلة أبي العباس الهشتوكي في رحلته المباركة نحو بيت الله الحرام سنة 1684م، مرّ يومها الفقيه عبر مناطق وادي الناموس وجنوب العين الصفراء والأبيض سيد الشيخ بالجنوب الغربي الجزائري، مسجلا خلالها انطباعات دقيقة وملاحظات ثمينة عن البيئة والمجتمع في تلك الأصقاع، تتقاطع فيها ملاحظات أنثروبولوجية دقيقة مع إشارات بيئية وتاريخية ثمينة تتيح لنا أن نستبصر أحوال البيئة في شمال صحراء وادي الناموس خلال القرن السابع عشر، واستنتاج حجم التّحولات التي طرأت على المجال خلال القرون اللاّحقة قبل أن تمتد يد التغيير المناخي والتوسع العمراني والرعي الجائر إلى تلك الأصقاع. فقد كانت في عهده، فضاء تنبض فيه الحياة البرية بحرية، وتترسخ فيه علاقة الإنسان بالمكان على نحو متسامح ومتوازن. 

عندما خرج الركب من فجيج، عدلوا عن طريق بوسمغون لوعورتها، واختاروا الطريق المار بالأبيض سيد الشيخ، لما فيه من يُسر ومسالك ممهدة. مرّوا عبر الزوبية (الواد لخضر بدرمل) ثم وادي الناموس إلى مشارف أم الخرواع (الخرواعة.. يوجد بها آثار قصر داثرة) وهناك صادفوا خيام من قبيلة حميان، فاستقبلهم أهلها بالألبان والضيافة، في تقليد يُشير إلى عمق قيم الكرم والتواصل بين الرحّل والوافدين. وقد أشار الهشتوكي إلى أن الركب كان بكامل عدّته وعديده، وكلّ أفراده من الفرسان، في انعكاس لوضع اجتماعي قبلي تُعلى فيه القيم الحربية والدفاعية من شأن الرجل ومكانته في القافلة.

أما من الناحية البيئية، فقد أبرز النص بوضوح التنوع البيولوجي الكبير في هذه المنطقة، حيث كانت الأرانب البرية وبيض الطيور تُشاهد بكثرة وتعد مصدرا غذائيا هاما لأهل المنطقة، حتى أن حركة الحجيج وصهيل خيولهم كانت كافية لإثارة الأرانب ودفعها للفرار وسط الفلوات، وقد وصف الهشتوكي طرق صيدها، التي غالبا ما كانت تتم بواسطة العصي، محذرا من أكل الموقوذة – أي التي تموت ضربا – مستشهدا في تحريمها بنص القرآن الكريم. هذا المشهد يعكس علاقة الإنسان بالحيوان في تلك البيئة، التي تقوم على الصيد المباشر والحضور الكثيف للحياة البرية.

وقد ورد في كلامه وصف لموضع "الأبيض سيد الشيخ" والذي سماه يومها ب "البيض" الأمر الذي يتطلب بحثا جديدا ومعمقا في أصل التسمية، وهو مجال جغرافي واسع يخلو من المياه الجارية، لكنه يضم رياضات ومبان ذات طابع عمراني بسيط، تحيط بها خيام البدو وسكان الفلاة،

كما أشار الهشتوكي إلى المكانة الرفيعة لأولاد سيدي الشيخ، الذين يحظون بهيبة واحترام بين العرب والعجم رغم غيابهم عن البلدة بمواشيهم بسبب موسم المرعى، وهو الأمر الذي يكشف عن نمط حياة متنقل مرتبط بتحوّلات المواسم، حيث يعرف المجال الرعوي بالتحرك لا بالثبات، ويعيد رسم العلاقة بين الإنسان والأرض باعتبارها ظرفية وموسمية.

كما أشار إلى انتشار الوباء بين أفراد الرّكب والذي أتى على كثير من الرجال والنساء، مما يجعل منه وثيقة هامة تبين تاريخ الأوبة والأمراض في بلاد المغرب الكبير وكيفية تنقلها في ذلك الوقت بين الأقطار. 

يمزج هذا المقتطف بين المعاينة الدينية والتأمل الأخلاقي والوصف الطبيعي والأنثروبولوجي، ويشكّل وثيقة نادرة في رسم صورة للبيئة والمجتمع الصحراوي في القرن السابع عشر، حيث كانت الطبيعة لا تزال تزخر بالحياة البرية، وكان الإنسان يعيش في تناغم هشّ معها، يستنير بالدين، ويسترشد بالعُرف، ويواجه أخطار الدروب بالدعاء والتضرع.

نص الوثيقة:

"ولمّا خرجنا من فجيج عدلنا عن طريق بوسمغون لوعرها، إلى طريق البيض (يقصد الأبيض سيد الشيخ) لكونها أسهل منها كما تقدم ولم يبت الركب إلى موضع يقال له الزوبية (واد الزوبية بدرمل) ثم منه إلى وادي الناموس ثم منه إلى قرب أم الخرواع (وهي الخرواعة التي يتواجد بها حاليا أطلال قصر قديم أنظر منشور حولها في التعليقات) وهناك وجدنا أحياء وخيام من حميان وكان على الطريق حي منهم وخويمات فمررنا عليهم وقابلونا بكثير من الألبان فناولنا منه الحاجة، ونحن إذ ذاك عدة قوم موسى (بمعنى بكامل عدتنا وسلاحنا) وكلنا فرسان، وفي هذا البلد كثير الطير وبيضها وكثيرة الأرانب، ويقع الناس في البيض الكثيرة والأرانب الغير اليسيرة ترى أرنبا يثيره مشي الحجيج أو كلامهم أو صهيل خيولهم أو نحو ذلك يجري من ناحية إلى أخرى حتى لا يجد سبيلا فيقف فيقبض، وكثيرا ما يضربونه بالمعراض (عصا الراعي) فيكسرونه ويقيدونه فيذبحونه ويأكلونه وكنت أنادي أصيح على من رأيته يفعل ذلك بأن ذاك حرام لا يجوز أكله لأنه موقوذ (موقوذة:البهيمة التي ماتت بالضرب) وقد ذكر الله سبحانه في كتابه العزيز أن ذلك حرام فقال  "حرمت عليكم الميتتة والدم".... 

فنزلنا البيض بين الظهر والعصر وزرنا به الولي الصالح سيد الشيخ ومن دفن معه من أولاده وأصحابه نفعنا الله بهم آمين ورفع عنا وعن ركبنا هذا كل وباء وطعن وطاعون فإنه قد أفنى منه عددا كثيرا الله تعالى كان على كل شيء قديرا، اللهم يا ذا الجلال والإكرام ويا ذا الفضل والانعام بجاه نبيك المرتضى ورسولك المجتبى أن تصرف عنا وعن ركبنا هذا هذا الوباء الذي أفنى منه بعدلك رجالا ونساء إنك مولانا على كل شيء قدير والإجابة مولانا جدير 

... والبيض هذا موضع واسع في فلوات من الأرض ليس فيه ماء جار وفيه رياضات عديدة مبنية بناء لابأس به ومدشر كبير غير أنه خرب لم تبقى العمارة فيه إلا في مواضع قليلة وبه خيم وأهل البلد ومن حولها كلهم يسمعون كلام اولاد سيد الشيخ ويمتثلون لهم وكلهم في تلك النواحي على صيت عظيم وتخدمهم وتهديهم العرب والعجم ولهم هناك جاه كبير ولم نجد فيه إذ ذاك واحدا من أولاد سيد الشيخ لأنهم يسكنون بمواشيهم بخيم الخلا للمرعى والكلأ وبتنا فيه إلى صلاة الصبح فحملنا على رواحلنا في كثرة ربيع وصيد..."

انتهى



أحمد عقون

ماي 2025

لاتاي. وميعاد الجماعة.. ملاحظات أنثروبولوجية

 لاتاي. وميعاد الجماعة.. 


ملاحظات أنثروبولوجية

في صمت الصباح الباكر، وبين أعمدة الخيمة الكبرى للحاج المجدوب نبو ببادية تيوت، كان الضيوف يتوافدون تباعا كأنّهم على موعد لا يُكتب في رزنامة، بل يُسجَّل في ذاكرة العادة. يجلسون على "فْرَاشْ الخَمْلَة" المزخرف، يتبادلون التحايا بوقار الشيوخ والرُوَّاد، ويُعلّقون جلابيبهم الوبرية على وتد الخيمة كمن يخلع ثقل العالم قبل الدخول في فسحة الكلام؛ يتسلّل بخار الشاي من فم الإبريق معانقا برد الخيمة، ويرتفع في الهواء الدافئ كأنّه صلاة يومية لا تبدأ الحياة دونها؛ وعلى إيقاع "التڨلاب" المتواصل في الكأس، تتناثر أطراف الحديث: عن المطر، عن السوق، والشاة، والجمل الذي ضلّ طريقه، وعن تلك الوعدة التي طالت، والدرويش الذي بشّر بها قبل موسمها. الكل هنا يعرف دوره، كما تعرف النار مهمتها في تدفئة الضيوف وتليين القلوب…


تُظهر تقاليد منطقة النعامة والهضاب العليا عموماً من خلال طقس إعداد الشاي، مظهراً اجتماعياً وثقافياً يتجاوز كونه عادة يومية ليصبح فنّاً مُجسداً لمعاني الكرم، والهوية، والانتماء. ففي هذه الثقافة، لا يكون الشاي مجرد مشروب يُقدَّم للضيوف، بل هو محور اللقاء وجوهر المجالس، فقبل أن يُدعى أحدهم إلى الغداء أو العشاء، يُدعى على فنجان شاي. ففيه تنعقد الجماعة، وهو بنيتها الصلبة، وبه تُجسّ النيّات، ويُبنى الكلام على مهل، وينطلق جني الشعر من قمقمه؛ فالشاي، لا الطعام، هو المهاد الأول للعِشرة، فيصير الغداء أو العشاء مجرد امتداد لطقسه، لا العكس، وتقتضي آداب الضيافة الرفيعة إعداده في حضرة الجماعة وأمام أعين الحضور.

تحمل طقوس الشاي في هذه المنطقة رموزاً عميقة تتجلى في علاقة الحضور به، إذ كان يُعتبر رمزاً ذكورياً أصيلا، حيث احتكر الرجال مراحل إعداده باعتباره مركز "ميعاد الجماعة" أو البروتوكول الخاص بجماعة الرجال داخل خيمة أو صالة المضيف. وكان تناول الشاي في هذه المناسبات يُعدّ طقساً يقتضي مراعاة قواعد الهيمنة الذكورية، إذ كانت تُمنع المرأة سابقاً حتى من لمس أو استخدام أواني الشاي – المعروفة مجتمعة بـ"المقامة" – في دلالة على علوّ مقامها ورمزيتها، مقارنة بأواني المطبخ التي تستعملها النساء. وقد كانت النساء، في الماضي، يكتفين بتناول بقايا الشاي، على غرار الأطفال، من خلال ما يُعرف بـ"التْنشَاحْ" (شفط بقايا الأوراق المستعملة). ومع مرور الوقت، تحررت المرأة من هذا المنع؛ فلم يعد شرب الشاي محظوراً عليها، وأصبح بإمكانها طهيه وتحضيره، فتحوّل من طقس رجالي صرف، إلى مشروب شعبي مشترك، ولم يعد يُكرّس الهيمنة الذكورية ولا البُنى البطريركية.

يُعدّ إعداد الشاي مسؤولية وشرفاً، يتولاها رجل يُنظر إليه بعين الاحترام والتقدير. فكان لابد أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط: أولها أن يكون متزوجاً. رزينا حكيما، وصاحب وقار وخبرة، وأن يجلس متربّعاً، نظيف البدن والثياب، مرتدياً عباءة ويغطي رأسه بعمامة؛ ويُفضَّل ألّا يكون أعسرا، لما لليد اليمنى من رمزية في الثقافة الإسلامية. ويذهب بعضهم إلى أن إقامة الشاي تُمنع على الأعمى، والأعرج، ومن به عاهة أو إعاقة، وألا يكون من طبقة العمال أو الرّعاة، في انعكاس واضح للتراتبية الاجتماعية المرتبطة بهذا الطقس اليومي.

تتضمن عملية إعداد الشاي سلسلة من الطقوس التي تبدأ بغسل اليدين باستخدام وعاء خاص، ثم فحص أدوات "المقامة": الصينية (ويُفضَّل أن تكون ذات أرجل)، الإبريق، الكؤوس الزجاجية النظيفة والتي ينبغي أن يزيد عددها عن عدد الضيوف، والطباخ أو "البقراج" الذي يُغلى فيه الماء – ويُفضل أن يكون من ماء الغدير لخفته وخلوه من المعادن التي تؤثر على نكهة الشاي. 

ثم تُضاف أوراق الشاي الأخضر الفاخر، من نوع "واحد وسبعين"، فالتقليل من الجودة – مثل استعمال أوراق "بوعود" الرديء – يُعد أمرا غير لائق وعيباً في الذوق؛ تُغسل الأوراق بماء مغلي لإزالة الغبار وتخفيف المرارة، وتُرمى الخلاصة جانباً في طقس رمزي يعرف بـ"التْشلِيلَة"، ويُعدّ فعلاً إيحائياً للتسامح والتجاوز عن العثرات، كأنما يُقال: "كما نغفر للشاي عيوبه، نغفر لبعضنا البعض زلاّتنا"؛ يُضاف الماء المغلي مرة أخرى، ويوضع الإبريق على الجمر حتى تطفو الرغوة ويأخذ الشاي لونه البني الفاتح، ثم يُرفع، وتُضاف قطع من سكر "القالب" – إذ لا يليق تقديم السّكر خاما مسحوقا لما فيه من رمزية للفوضى والتّشظي؛ بعد ذلك، يُقلّب الشاي في كأس كبيرة، في عملية تُعرف بـ"التڨلاب"، وهي بمثابة طبخة ثانية تسمح بتغلغل الأكسجين في جزيئات الشاي ما يحسّن من مذاقه ويذهب عنه بعضا من حرارته؛ وقبل تقديمه يتذوق معدّ الشاي رشفة منه بأدب، ليطمئن إلى جودته واتزانه، وهي رمز للثقة، ثم يسكبه في الكؤوس. وللسكب بدوره قواعد: إذ يجب رفع الإبريق لمسافة كافية حتى تتكوّن "العمامة" (الرغوة) كعلامة على علو مقام الضيف، بينما السكب من مسافة قريبة يُعدّ إهانة وحطّا من قيمته، كما لا يجب ملء الكأس حتى الحافة، لأن ذلك يُعدّ دلالة على الاحتقار وقلة القناعة، فيُعامل معاملة "الراعي" أو العامل البسيط. وفي هذا يقال: (اللي يملي الكاس، عقاب الناس) ثم توزّع الكؤوس بدءًا من أول ضيف عن يمين المعدّ بالتساوي وبتأنّ.

ومن خصوصيات هذا الطقس الراقي أن الشاي لا يُرفض؛ فرفضه يُعدّ قلة ذوق أو حتى إهانة؛ وقبول الشاي هو قبول للعِشرة والسِّلم، وغالباً ما تُقدَّم ثلاث كؤوس متتالية: إذ يُرمز للكأس الأول بالمُرّ، والكأس الثاني بالتوازن، والثالث بالحلاوة؛ تدل هذه الرمزية على الصدق والود والتّسامح. 

الشاي في هذه الثقافة ليس مشروباً فقط، بل وسيلة لخلق الفضاء الاجتماعي: يُحضّر في المجالس، المفاوضات، الأعراس، الجنائز، ومجالس الصلح. ويُشكّل منصة رمزية للتقارب وبناء التفاهم. كما أن من يُعدّه في الغالب هو الأكبر سنًّا أو الأكثر احتراماً، ما يعكس توزيعاً دقيقاً للأدوار داخل الجماعة، ويؤكد أن الطقس يحمل أبعاداً من التراتب الاجتماعي. كذلك، يكتسب الشاي طابعاً مزدوجاً: رجولي في الفضاء العام، حيث يُعده الرجال، وأنثوي حميمي في الفضاء الخاص، حيث تتولاه النساء في البيوت، فتحوّل الشاي من طقس رجالي صِرف، إلى مشترك، لم يكن مجرد كسر للتابو الذكوري ولأدوات "المْقَامَة" بل شمل أيضاً إعادة تشكيل الخريطة الرمزية للسلطة داخل الجماعة، فلم يعد إعداد الشاي حكراً على كبار القوم من الرجال، بل صار فعلاً تفاوضياً، تتقاطع فيه أدوار الجندر مع متطلبات الحياة اليومية؛ فالمرأة، التي كانت مستبعَدة رمزياً، باتت قادرة على ممارسة هذا الطقس ضمن نطاق العائلة، وأحياناً في المجال العام، وهو ما يُشير إلى تراجع السلطة الرمزية للذكورة لصالح سلطة عملية جديدة تقوم على الكفاءة والقدرة. وهكذا، تحوّل الشاي من أداة ترسيخ للتراتبية الجندرية إلى مساحة تفاوض وصياغة جديدة للعلاقات، حيث صار حضور المرأة في طقوسه اليومية شكلاً من أشكال التعبير عن الذات، والمشاركة في إنتاج الفضاء الاجتماعي؛ لكن هذا التحوّل لا يعني فقط كسرًا لهيمنة ذكورية قديمة، بل يُشير أيضاً إلى انتقال تدريجي في أشكال السلطة داخل الجماعة: من سلطة رمزية، قائمة على الهيبة والتقليد، إلى سلطة عملية تُقاس بالكفاءة والفعالية؛ فلم تعد "المْقَامَة" حكراً على من يحوزون الرمزيات الذكورية العليا، بل أصبحت ساحة يتفاوض فيها الجميع أدوارهم ضمن شروط الحياة المعاصرة؛ فالمرأة – حين تُعدّ الشاي اليوم – لا تُقلّد فعلاً رجاليًا، بل تُعيد إنتاجه وفق معايير جديدة، تُزاوج بين الحميمي والعام، بين الرعاية والبروتوكول. بهذا المعنى، لم يتحوّل الشاي إلى ممارسة محايدة، بل إلى مساحة تفاوض مستمرة حول من يملك الحق في خلق الفضاء الاجتماعي ومن يتحكّم في إيقاعه.


رغم تسارع الحياة الحديثة، يظلّ طقس الشاي في الهضاب العليا الجزائرية مقاومة ناعمة للسرعة، فهو لحظة تأمل وهدوء، يفرض إيقاعاً زمنياً بطيئاً، يعاكس صخب الحداثة، ويمنح فسحة للتواصل الحقيقي. فهو هوية بحدّ ذاته، مقاومة للنسيان، ومُؤَكِّدة على أهمية الاستدامة الاجتماعية والتقاليد الأصيلة في عالم سريع الزوال؛ ففي حضرة "المْقَامَة" لا نحتسي الشاي فقط، بل نرتشف ذاكرتنا، وشيئًا من الحكمة التي تفور مع البخار.


أحمد عقون


أفريل 2025