لاتاي. وميعاد الجماعة.. ملاحظات أنثروبولوجية

 لاتاي. وميعاد الجماعة.. 


ملاحظات أنثروبولوجية

في صمت الصباح الباكر، وبين أعمدة الخيمة الكبرى للحاج المجدوب نبو ببادية تيوت، كان الضيوف يتوافدون تباعا كأنّهم على موعد لا يُكتب في رزنامة، بل يُسجَّل في ذاكرة العادة. يجلسون على "فْرَاشْ الخَمْلَة" المزخرف، يتبادلون التحايا بوقار الشيوخ والرُوَّاد، ويُعلّقون جلابيبهم الوبرية على وتد الخيمة كمن يخلع ثقل العالم قبل الدخول في فسحة الكلام؛ يتسلّل بخار الشاي من فم الإبريق معانقا برد الخيمة، ويرتفع في الهواء الدافئ كأنّه صلاة يومية لا تبدأ الحياة دونها؛ وعلى إيقاع "التڨلاب" المتواصل في الكأس، تتناثر أطراف الحديث: عن المطر، عن السوق، والشاة، والجمل الذي ضلّ طريقه، وعن تلك الوعدة التي طالت، والدرويش الذي بشّر بها قبل موسمها. الكل هنا يعرف دوره، كما تعرف النار مهمتها في تدفئة الضيوف وتليين القلوب…


تُظهر تقاليد منطقة النعامة والهضاب العليا عموماً من خلال طقس إعداد الشاي، مظهراً اجتماعياً وثقافياً يتجاوز كونه عادة يومية ليصبح فنّاً مُجسداً لمعاني الكرم، والهوية، والانتماء. ففي هذه الثقافة، لا يكون الشاي مجرد مشروب يُقدَّم للضيوف، بل هو محور اللقاء وجوهر المجالس، فقبل أن يُدعى أحدهم إلى الغداء أو العشاء، يُدعى على فنجان شاي. ففيه تنعقد الجماعة، وهو بنيتها الصلبة، وبه تُجسّ النيّات، ويُبنى الكلام على مهل، وينطلق جني الشعر من قمقمه؛ فالشاي، لا الطعام، هو المهاد الأول للعِشرة، فيصير الغداء أو العشاء مجرد امتداد لطقسه، لا العكس، وتقتضي آداب الضيافة الرفيعة إعداده في حضرة الجماعة وأمام أعين الحضور.

تحمل طقوس الشاي في هذه المنطقة رموزاً عميقة تتجلى في علاقة الحضور به، إذ كان يُعتبر رمزاً ذكورياً أصيلا، حيث احتكر الرجال مراحل إعداده باعتباره مركز "ميعاد الجماعة" أو البروتوكول الخاص بجماعة الرجال داخل خيمة أو صالة المضيف. وكان تناول الشاي في هذه المناسبات يُعدّ طقساً يقتضي مراعاة قواعد الهيمنة الذكورية، إذ كانت تُمنع المرأة سابقاً حتى من لمس أو استخدام أواني الشاي – المعروفة مجتمعة بـ"المقامة" – في دلالة على علوّ مقامها ورمزيتها، مقارنة بأواني المطبخ التي تستعملها النساء. وقد كانت النساء، في الماضي، يكتفين بتناول بقايا الشاي، على غرار الأطفال، من خلال ما يُعرف بـ"التْنشَاحْ" (شفط بقايا الأوراق المستعملة). ومع مرور الوقت، تحررت المرأة من هذا المنع؛ فلم يعد شرب الشاي محظوراً عليها، وأصبح بإمكانها طهيه وتحضيره، فتحوّل من طقس رجالي صرف، إلى مشروب شعبي مشترك، ولم يعد يُكرّس الهيمنة الذكورية ولا البُنى البطريركية.

يُعدّ إعداد الشاي مسؤولية وشرفاً، يتولاها رجل يُنظر إليه بعين الاحترام والتقدير. فكان لابد أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط: أولها أن يكون متزوجاً. رزينا حكيما، وصاحب وقار وخبرة، وأن يجلس متربّعاً، نظيف البدن والثياب، مرتدياً عباءة ويغطي رأسه بعمامة؛ ويُفضَّل ألّا يكون أعسرا، لما لليد اليمنى من رمزية في الثقافة الإسلامية. ويذهب بعضهم إلى أن إقامة الشاي تُمنع على الأعمى، والأعرج، ومن به عاهة أو إعاقة، وألا يكون من طبقة العمال أو الرّعاة، في انعكاس واضح للتراتبية الاجتماعية المرتبطة بهذا الطقس اليومي.

تتضمن عملية إعداد الشاي سلسلة من الطقوس التي تبدأ بغسل اليدين باستخدام وعاء خاص، ثم فحص أدوات "المقامة": الصينية (ويُفضَّل أن تكون ذات أرجل)، الإبريق، الكؤوس الزجاجية النظيفة والتي ينبغي أن يزيد عددها عن عدد الضيوف، والطباخ أو "البقراج" الذي يُغلى فيه الماء – ويُفضل أن يكون من ماء الغدير لخفته وخلوه من المعادن التي تؤثر على نكهة الشاي. 

ثم تُضاف أوراق الشاي الأخضر الفاخر، من نوع "واحد وسبعين"، فالتقليل من الجودة – مثل استعمال أوراق "بوعود" الرديء – يُعد أمرا غير لائق وعيباً في الذوق؛ تُغسل الأوراق بماء مغلي لإزالة الغبار وتخفيف المرارة، وتُرمى الخلاصة جانباً في طقس رمزي يعرف بـ"التْشلِيلَة"، ويُعدّ فعلاً إيحائياً للتسامح والتجاوز عن العثرات، كأنما يُقال: "كما نغفر للشاي عيوبه، نغفر لبعضنا البعض زلاّتنا"؛ يُضاف الماء المغلي مرة أخرى، ويوضع الإبريق على الجمر حتى تطفو الرغوة ويأخذ الشاي لونه البني الفاتح، ثم يُرفع، وتُضاف قطع من سكر "القالب" – إذ لا يليق تقديم السّكر خاما مسحوقا لما فيه من رمزية للفوضى والتّشظي؛ بعد ذلك، يُقلّب الشاي في كأس كبيرة، في عملية تُعرف بـ"التڨلاب"، وهي بمثابة طبخة ثانية تسمح بتغلغل الأكسجين في جزيئات الشاي ما يحسّن من مذاقه ويذهب عنه بعضا من حرارته؛ وقبل تقديمه يتذوق معدّ الشاي رشفة منه بأدب، ليطمئن إلى جودته واتزانه، وهي رمز للثقة، ثم يسكبه في الكؤوس. وللسكب بدوره قواعد: إذ يجب رفع الإبريق لمسافة كافية حتى تتكوّن "العمامة" (الرغوة) كعلامة على علو مقام الضيف، بينما السكب من مسافة قريبة يُعدّ إهانة وحطّا من قيمته، كما لا يجب ملء الكأس حتى الحافة، لأن ذلك يُعدّ دلالة على الاحتقار وقلة القناعة، فيُعامل معاملة "الراعي" أو العامل البسيط. وفي هذا يقال: (اللي يملي الكاس، عقاب الناس) ثم توزّع الكؤوس بدءًا من أول ضيف عن يمين المعدّ بالتساوي وبتأنّ.

ومن خصوصيات هذا الطقس الراقي أن الشاي لا يُرفض؛ فرفضه يُعدّ قلة ذوق أو حتى إهانة؛ وقبول الشاي هو قبول للعِشرة والسِّلم، وغالباً ما تُقدَّم ثلاث كؤوس متتالية: إذ يُرمز للكأس الأول بالمُرّ، والكأس الثاني بالتوازن، والثالث بالحلاوة؛ تدل هذه الرمزية على الصدق والود والتّسامح. 

الشاي في هذه الثقافة ليس مشروباً فقط، بل وسيلة لخلق الفضاء الاجتماعي: يُحضّر في المجالس، المفاوضات، الأعراس، الجنائز، ومجالس الصلح. ويُشكّل منصة رمزية للتقارب وبناء التفاهم. كما أن من يُعدّه في الغالب هو الأكبر سنًّا أو الأكثر احتراماً، ما يعكس توزيعاً دقيقاً للأدوار داخل الجماعة، ويؤكد أن الطقس يحمل أبعاداً من التراتب الاجتماعي. كذلك، يكتسب الشاي طابعاً مزدوجاً: رجولي في الفضاء العام، حيث يُعده الرجال، وأنثوي حميمي في الفضاء الخاص، حيث تتولاه النساء في البيوت، فتحوّل الشاي من طقس رجالي صِرف، إلى مشترك، لم يكن مجرد كسر للتابو الذكوري ولأدوات "المْقَامَة" بل شمل أيضاً إعادة تشكيل الخريطة الرمزية للسلطة داخل الجماعة، فلم يعد إعداد الشاي حكراً على كبار القوم من الرجال، بل صار فعلاً تفاوضياً، تتقاطع فيه أدوار الجندر مع متطلبات الحياة اليومية؛ فالمرأة، التي كانت مستبعَدة رمزياً، باتت قادرة على ممارسة هذا الطقس ضمن نطاق العائلة، وأحياناً في المجال العام، وهو ما يُشير إلى تراجع السلطة الرمزية للذكورة لصالح سلطة عملية جديدة تقوم على الكفاءة والقدرة. وهكذا، تحوّل الشاي من أداة ترسيخ للتراتبية الجندرية إلى مساحة تفاوض وصياغة جديدة للعلاقات، حيث صار حضور المرأة في طقوسه اليومية شكلاً من أشكال التعبير عن الذات، والمشاركة في إنتاج الفضاء الاجتماعي؛ لكن هذا التحوّل لا يعني فقط كسرًا لهيمنة ذكورية قديمة، بل يُشير أيضاً إلى انتقال تدريجي في أشكال السلطة داخل الجماعة: من سلطة رمزية، قائمة على الهيبة والتقليد، إلى سلطة عملية تُقاس بالكفاءة والفعالية؛ فلم تعد "المْقَامَة" حكراً على من يحوزون الرمزيات الذكورية العليا، بل أصبحت ساحة يتفاوض فيها الجميع أدوارهم ضمن شروط الحياة المعاصرة؛ فالمرأة – حين تُعدّ الشاي اليوم – لا تُقلّد فعلاً رجاليًا، بل تُعيد إنتاجه وفق معايير جديدة، تُزاوج بين الحميمي والعام، بين الرعاية والبروتوكول. بهذا المعنى، لم يتحوّل الشاي إلى ممارسة محايدة، بل إلى مساحة تفاوض مستمرة حول من يملك الحق في خلق الفضاء الاجتماعي ومن يتحكّم في إيقاعه.


رغم تسارع الحياة الحديثة، يظلّ طقس الشاي في الهضاب العليا الجزائرية مقاومة ناعمة للسرعة، فهو لحظة تأمل وهدوء، يفرض إيقاعاً زمنياً بطيئاً، يعاكس صخب الحداثة، ويمنح فسحة للتواصل الحقيقي. فهو هوية بحدّ ذاته، مقاومة للنسيان، ومُؤَكِّدة على أهمية الاستدامة الاجتماعية والتقاليد الأصيلة في عالم سريع الزوال؛ ففي حضرة "المْقَامَة" لا نحتسي الشاي فقط، بل نرتشف ذاكرتنا، وشيئًا من الحكمة التي تفور مع البخار.


أحمد عقون


أفريل 2025














ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق