في ظلال الركب الهشتوكي: ملاحظات أنثروبولوجية وبيئية من القرن السابع عشر جنوب الأطلس الصحراوي .

 في ظلال الركب الهشتوكي: ملاحظات أنثروبولوجية وبيئية من القرن السابع عشر جنوب الأطلس الصحراوي

.

النص هذا وثيقة فريدة ومركبة، وهو مقتطف من رحلة أبي العباس الهشتوكي في رحلته المباركة نحو بيت الله الحرام سنة 1684م، مرّ يومها الفقيه عبر مناطق وادي الناموس وجنوب العين الصفراء والأبيض سيد الشيخ بالجنوب الغربي الجزائري، مسجلا خلالها انطباعات دقيقة وملاحظات ثمينة عن البيئة والمجتمع في تلك الأصقاع، تتقاطع فيها ملاحظات أنثروبولوجية دقيقة مع إشارات بيئية وتاريخية ثمينة تتيح لنا أن نستبصر أحوال البيئة في شمال صحراء وادي الناموس خلال القرن السابع عشر، واستنتاج حجم التّحولات التي طرأت على المجال خلال القرون اللاّحقة قبل أن تمتد يد التغيير المناخي والتوسع العمراني والرعي الجائر إلى تلك الأصقاع. فقد كانت في عهده، فضاء تنبض فيه الحياة البرية بحرية، وتترسخ فيه علاقة الإنسان بالمكان على نحو متسامح ومتوازن. 

عندما خرج الركب من فجيج، عدلوا عن طريق بوسمغون لوعورتها، واختاروا الطريق المار بالأبيض سيد الشيخ، لما فيه من يُسر ومسالك ممهدة. مرّوا عبر الزوبية (الواد لخضر بدرمل) ثم وادي الناموس إلى مشارف أم الخرواع (الخرواعة.. يوجد بها آثار قصر داثرة) وهناك صادفوا خيام من قبيلة حميان، فاستقبلهم أهلها بالألبان والضيافة، في تقليد يُشير إلى عمق قيم الكرم والتواصل بين الرحّل والوافدين. وقد أشار الهشتوكي إلى أن الركب كان بكامل عدّته وعديده، وكلّ أفراده من الفرسان، في انعكاس لوضع اجتماعي قبلي تُعلى فيه القيم الحربية والدفاعية من شأن الرجل ومكانته في القافلة.

أما من الناحية البيئية، فقد أبرز النص بوضوح التنوع البيولوجي الكبير في هذه المنطقة، حيث كانت الأرانب البرية وبيض الطيور تُشاهد بكثرة وتعد مصدرا غذائيا هاما لأهل المنطقة، حتى أن حركة الحجيج وصهيل خيولهم كانت كافية لإثارة الأرانب ودفعها للفرار وسط الفلوات، وقد وصف الهشتوكي طرق صيدها، التي غالبا ما كانت تتم بواسطة العصي، محذرا من أكل الموقوذة – أي التي تموت ضربا – مستشهدا في تحريمها بنص القرآن الكريم. هذا المشهد يعكس علاقة الإنسان بالحيوان في تلك البيئة، التي تقوم على الصيد المباشر والحضور الكثيف للحياة البرية.

وقد ورد في كلامه وصف لموضع "الأبيض سيد الشيخ" والذي سماه يومها ب "البيض" الأمر الذي يتطلب بحثا جديدا ومعمقا في أصل التسمية، وهو مجال جغرافي واسع يخلو من المياه الجارية، لكنه يضم رياضات ومبان ذات طابع عمراني بسيط، تحيط بها خيام البدو وسكان الفلاة،

كما أشار الهشتوكي إلى المكانة الرفيعة لأولاد سيدي الشيخ، الذين يحظون بهيبة واحترام بين العرب والعجم رغم غيابهم عن البلدة بمواشيهم بسبب موسم المرعى، وهو الأمر الذي يكشف عن نمط حياة متنقل مرتبط بتحوّلات المواسم، حيث يعرف المجال الرعوي بالتحرك لا بالثبات، ويعيد رسم العلاقة بين الإنسان والأرض باعتبارها ظرفية وموسمية.

كما أشار إلى انتشار الوباء بين أفراد الرّكب والذي أتى على كثير من الرجال والنساء، مما يجعل منه وثيقة هامة تبين تاريخ الأوبة والأمراض في بلاد المغرب الكبير وكيفية تنقلها في ذلك الوقت بين الأقطار. 

يمزج هذا المقتطف بين المعاينة الدينية والتأمل الأخلاقي والوصف الطبيعي والأنثروبولوجي، ويشكّل وثيقة نادرة في رسم صورة للبيئة والمجتمع الصحراوي في القرن السابع عشر، حيث كانت الطبيعة لا تزال تزخر بالحياة البرية، وكان الإنسان يعيش في تناغم هشّ معها، يستنير بالدين، ويسترشد بالعُرف، ويواجه أخطار الدروب بالدعاء والتضرع.

نص الوثيقة:

"ولمّا خرجنا من فجيج عدلنا عن طريق بوسمغون لوعرها، إلى طريق البيض (يقصد الأبيض سيد الشيخ) لكونها أسهل منها كما تقدم ولم يبت الركب إلى موضع يقال له الزوبية (واد الزوبية بدرمل) ثم منه إلى وادي الناموس ثم منه إلى قرب أم الخرواع (وهي الخرواعة التي يتواجد بها حاليا أطلال قصر قديم أنظر منشور حولها في التعليقات) وهناك وجدنا أحياء وخيام من حميان وكان على الطريق حي منهم وخويمات فمررنا عليهم وقابلونا بكثير من الألبان فناولنا منه الحاجة، ونحن إذ ذاك عدة قوم موسى (بمعنى بكامل عدتنا وسلاحنا) وكلنا فرسان، وفي هذا البلد كثير الطير وبيضها وكثيرة الأرانب، ويقع الناس في البيض الكثيرة والأرانب الغير اليسيرة ترى أرنبا يثيره مشي الحجيج أو كلامهم أو صهيل خيولهم أو نحو ذلك يجري من ناحية إلى أخرى حتى لا يجد سبيلا فيقف فيقبض، وكثيرا ما يضربونه بالمعراض (عصا الراعي) فيكسرونه ويقيدونه فيذبحونه ويأكلونه وكنت أنادي أصيح على من رأيته يفعل ذلك بأن ذاك حرام لا يجوز أكله لأنه موقوذ (موقوذة:البهيمة التي ماتت بالضرب) وقد ذكر الله سبحانه في كتابه العزيز أن ذلك حرام فقال  "حرمت عليكم الميتتة والدم".... 

فنزلنا البيض بين الظهر والعصر وزرنا به الولي الصالح سيد الشيخ ومن دفن معه من أولاده وأصحابه نفعنا الله بهم آمين ورفع عنا وعن ركبنا هذا كل وباء وطعن وطاعون فإنه قد أفنى منه عددا كثيرا الله تعالى كان على كل شيء قديرا، اللهم يا ذا الجلال والإكرام ويا ذا الفضل والانعام بجاه نبيك المرتضى ورسولك المجتبى أن تصرف عنا وعن ركبنا هذا هذا الوباء الذي أفنى منه بعدلك رجالا ونساء إنك مولانا على كل شيء قدير والإجابة مولانا جدير 

... والبيض هذا موضع واسع في فلوات من الأرض ليس فيه ماء جار وفيه رياضات عديدة مبنية بناء لابأس به ومدشر كبير غير أنه خرب لم تبقى العمارة فيه إلا في مواضع قليلة وبه خيم وأهل البلد ومن حولها كلهم يسمعون كلام اولاد سيد الشيخ ويمتثلون لهم وكلهم في تلك النواحي على صيت عظيم وتخدمهم وتهديهم العرب والعجم ولهم هناك جاه كبير ولم نجد فيه إذ ذاك واحدا من أولاد سيد الشيخ لأنهم يسكنون بمواشيهم بخيم الخلا للمرعى والكلأ وبتنا فيه إلى صلاة الصبح فحملنا على رواحلنا في كثرة ربيع وصيد..."

انتهى



أحمد عقون

ماي 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق