من حكايات قريتنا.. البولة الخالدة
التشومي.. حين كان ظهر الأم وطنًا
في قريتنا تيوت، كانت النساء يقلن: "فلانة فَرڨت ولدها"، وكأنهن يعلنّ عبورا جديدا في حياة الطفل. "التشومي" لم يكن مجرد حمل للصغير على ظهر أمه برداء أو حايك، بل هو طقس وجودي يربط الإنسان بأولى خطواته في الحياة، بأول انفصال عن الدفء الساكن إلى دفء الحركة والدوران في فلك الأم والأسرة والجيران.، كانت النساء يمشين وهن يحملن على ظهورهنّ ليس أجسادا صغيرة، بل عوالمَ كاملة من البراءة والأمل؛ فالذكور يُشَلَّمون في الشهر الثالث، والبنات يُمهلن حتى الشهر الرابع. وفي أول مرة يُحمل فيها الرضيع على الظهر، تُقام مراسيم يسمونها "الفْرِيڨ"، أي فَرْقُ الطفل عن مكان ولادته ونومه. وللفتيان كان الفريڨ رمزيًا: فرق رجليه على ظهر أمه إشارةً إلى مستقبله، فارسًا على ظهر جواد.
وللفريڨ طقوسه الدقيقة: لا تحمله الأم في المرة الأولى، بل يُوضع على ظهر صبية صغيرة، لم تبلغ بعد، وغالبا ما تكون أخته أو قريبة له. ثم تطوف به تلك الصبية بين بيوت الجيران والأهل، فيقدمون ما تيسر من الطحين أو السكر أو الشاي أو كْرَامَة من النقود. في نهاية النهار، يُقام احتفال صغير، تُعدّ فيه وليمة صغيرة مما تم جمعه، وتحضر النساء جميعًا لحلقة "فريڨ الطفل" وتشلامه. فينبعث عبير النعناع والشاي الساخن من الأبواب المشرعة، وتعلو أصوات تهاني النساء كزغاريد خافتة، بعد ذلك، يحق لأمه أو باقي نساء البيت أن يحملنه على ظهورهن.
وكانت الحياة اليومية لا تخلو من طرائف التشومي، أذكر ذات يوم كانت خالتي حدّة منهمكة في دبغ هيدورة سيدي عبد القادر الجيلاني في حوشنا تحت أشعة الشمس الدافئة وهي مشومية ابنها على ظهرها، وفجأة شعرت بسائل دافئ يتسلل ببطئ بين الثياب إلى ظهرها، فانتفضت صارخة وقد أدركت أن طفلها قد تبول عليها. هنا انفجر مجلس النسوة بالضحك.. وسارعت خالتي عبّاسة تُخرج الرضيع من لفافة القماش لتتنفس الأم قليلًا بعد الفزع أما البقية فقد دخلن في دوامة هستيرية من الضحك والسخرية..
وفي مثل هذه الحالات إن كان مرتكب جريمة التبول ذكرا، خفّ الأمر واعتبرن تنظيفه مؤجلًا. أما إن كانت أنثى، فقد كان لزامًا التعجيل بالغُسل، فالنساء يقلن إن بول البنات أشد نجاسة وعفنًا من بول الصبيان، في رمزيّة تُظهر سطوة الذكورية حتى في النجاسة. لكن الموقف لا يخلو من مرح بسيط: ضحكٌ هستيري، وعتابٌ خفيف.
هكذا، كان ظهر الأم وطنًا آخر للطفل، أقرب إليه من أنفاسه، تُرسَم خريطته بخطوط التعب والعرق والدموع والنجاسة على قميص الأم، وتُزيّنها بقع طعام الطفل وعلامات لعابه، النساء في قريتنا حملن أبناءهن بكل مشقة ولم يجزعن، بل وجدن في تلك الطقوس عزاء وفرحا وسندا يخفف عنهن بؤس الأيام.
أما الآن… فقد ابتعد الأطفال عن صدور الأمهات، وانفصلوا عن دفء الجماعة، ينامون في كرُّوسات باردة، ويُتركون في أسرّة صامتة. وكأن طفولتهم صارت تجربة فردية معزولة، بلا أذرع، بلا دفء بشري وبلا ضحك النساء ولا سخرية الجارات، ولا دفء الأكتاف التي كانت وطنًا صغيرًا، لم يعودوا يتذوقون فرح البساطة الأولى، يوم كان العالم كله يتجسد في ظهر أم، ينهض بهم، ويمشي بهم، ويحملهم في صمتٍ لا يُنسى.. لقد فقدنا "جماعية الفرح" التي كانت تُولد من أبسط المواقف، لنعيش حاضرًا يكثر فيه كل شيء إلا الحميمية، ويقل فيه كل شيء إلا الوحدة، ليصبح العالم أوسعَ مما كان، ولكن قلوبنا أصبحت أصغرَ مما كانت وكأننا وسّعنا الطرقات، لكننا أضعنا الدروب المؤدية إلى بعضنا
فيا له من فرقٍ بين طفلٍ ينام على ظهر أمه ويسمع دقّات قلبها، وطفلٍ في كرسي بلاستيكيٍ بارد! لقد خسرنا ذلك التوازن بين الحماية والاستقلال، بين أن تكون محبوبا ومحاطا بالضحك والحياة، وأن تكون معزولا في سريرك الصامت.
أحمد عقون
سبتمبر 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق