من حكايات قريتنا: 

.. پاتيسري القرية؛ فرحة الطين والماء


أواخر ثمانينات القرن الماضي، حين كانت الحياة تسير على فطرتها الأولى، كانت قريتنا "تيوت" تنام باكرا مع غروب الشمس، ساكنة كرضيع في حضن أمه. لا طرقات معبّدة، ولا أعمدة إنارة، ولا شبكة مياه أو غاز، بل بيوت متراصّة بُنيت من حجارة حمراء اقتلعت من هضبة مجاورة. كان كل شيء أحمر ياجوريا: الأرض، البيوت، الهضبة… حتى يخيل إليك أن القرية قطعة من صخر خرجت من قصة قديمة من قصص مخائيل نعيمة.

مع الفجر، يصدح صوت عمي حمو سالم رحمه الله، يؤذن من غير مكبر، صوته الجهوري يوقظ النائمين، يدعو الفلاحين والرعاة إلى نهاراتهم الطويلة. فيصلي مع أهل المسجد العتيق ثم يجر عربته "البرويطة" ليجمع قمامة الحي وحده. يظل يدور جيئة وذهابا حتى تشرق الشمس، وحين تكتمل، يكون الحي نقيا كأنه اغتسل بماء المطر، فيعود عمي حمو سالم الى بيته بعد أن نظف القلوب والبيوت.. 

أما نحن الأطفال، فكنا نستيقظ مع شروق الشمس، نشرب القهوة ونتناول خبز "كوشة الطين" الساخن الذي أعدّته أمهاتنا، خبز يخرج من الجمر كأنه قطعة جبن طري. ثم نخرج للعب؛ صديقي عيسى يحفر الأرض ببالة صنعها من علبة طماطم مسطحة في جريدة نخلة، ونصرو يركض وراء إطار عجلة يقوده بسلك معقوف، أما أنا فأقود عربتي الصغيرة من أسلاك وقش. لا نعرف للملل اسما ولا للوقت معنى، كنا نملأ النهار كله لعبا وضحكا.

غير أنّ أجمل لحظات الأسبوع كانت صباح الجمعة. كنا ننتظر نهاية القرية بلهفة، لعلّ طيف أخي الكبير محمد يطل عائدا من المدينة. كان يعمل مساعد خباز في مخبزة جماط بالعين الصفراء، فيعود حاملا معه علبة "پاتيسري" من الحلويات الأوربية.. بيضاء مشدودة بخيط بلاستيكي وردي. ما أن نراه حتى ننطلق نحوه نسبق ظلنا وتسبقنا قلوبنا، فنسير معه إلى البيت، وكل بيوت القرية كانت لنا، وكل الأمهات كن أمهاتنا.. تأخذ أمي العلبة بعينيها المضيئتين، ثم تشترط بحزمٍ وحنان:

"لكل واحد قطعة… لكن أولا املأوا الدلاء من سبالة هلال ومن بعد رواحوا.." 

فنحمل "البكابيك" حفاة، ونجري نحو القصر العتيق حيث المنبع. هناك نلتقي أطفال الأحياء الأخرى، وأبناء البدو الذين يسقون على حميرهم بالباونات المصنوعة من المطاط. ننتظر دورنا بصبر مشوب بالفرح، نعرف أنّ الماء هنا مفتاح العيد، وأن في آخر الطريق تنتظرنا الجائزة؛ وحين نعود.. نعود متسخين بالتراب والماء، تستقبلنا أمي بابتسامة كأنها صلاة.. فتمدّ لنا قطع الحلوى. نأكلها بأصابع لا يزال الطين عالقا بها من "سبالة هلال" قطعة صغيرة تجعلنا أمراء الزمان. ولو وجد أحدنا الغفلة لابتلع العلبة كلها، دون أن يعرف وجعًا أو تخمة أو ارتجاعا.. 

... 

كنا نملك كل الفرح في بساطة تلك الأيام: خبز الطين، ماء السّبالة، لعبة من علبة قديمة، وعلبة "پاتيسري" يتيمة ننتظرها أسبوعا. كان اللعب شغلنا الشاغل من شروق الشمس حتى غروبها، وكان الوجود ممتلئا بلا أسئلة.

أما اليوم، وقد صار كل شيء متاحا حتى لأفقر فقير رغم القهر، فلا ندري كيف انهار المعنى وأفل الفرح. 

من يتحدّث عن موت المعنى في أعقد تجلياته، أقول له: لقد سُرق المعنى من الأطفال أولا، حين صودرت ألعاب الطين واستُبدلت بالشاشات واللوحات الرقمية.

المعنى الطفولي كان يلمع في قطعة طين تُشكّل بيدين صغيرتين، أو في ضحكة تنفجر أثناء لعبة جماعية. في الطفولة، لا يحتاج المعنى إلى تنظير، إنه حاضر بكثافة: في كرة تُصنع من جوارب قديمة، أو دمية من قماش مهترئ. هناك يكون الوجود ممتلئا دون سؤال.

أما اليوم فالمعنى يُطرح في الفلسفة لأنه غائب أصلا أو في أحسن حالاته مهدّد. وكأنّ الفلاسفة لا يبحثون إلا في المناطق المظلمة من التجربة، متناسين أن لحظات اللعب والألفة والفرح البدائي هي معان أصيلة. فصار أطفال اليوم – كما نراهم – أسرى روضات الأطفال، ومستلبين منذ البداية. لم يعد هناك مجال لصناعة الكرة من الطين أو العربة من القش، لأن السوق صار يقدّم لعبة مصمّمة، جاهزة، افتراضية. اللعبة لم تعد اكتشافا بل استهلاكا، وهذا الاستلاب المبكر سرق منهم بذور المعنى.

ربما المشكلة ليست في الفلاسفة وحدهم، بل في أنّ مجتمعنا اليوم يفرض عليهم مناطق بحث بعيدة وغيبية، بينما يظلّ "المعنى البسيط" مهملاً، لأنه يُعتبر تافهًا أو بدائيا.. 

قد نجد عند نيتشه إشارة إلى "الطفل" كرمز للبراءة والخلق الجديد، وعند هايدغر حديثا عن "السكن الشعري في العالم"، لكن لم تُبنى فلسفة كبرى بعد على اللعب الطفولي كمنبع للمعنى.

المعنى لم يمت. نحن فقط من نريد أن نعجل موته حين نغفل عن جذوره الأولى: اللعب، الطين، البساطة، ودهشة الأشياء الصغيرة.


أحمد عقون

أوت 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق