على خطى قافلة عرش البكاكرة: أسرار الصحراء وصدى الشيخ بوعمامة
(وثيقة نادرة من 1890 تكشف أسرار قوافل الجنوب الغربي الجزائري)
الوثيقة، محفوظة اليوم في أرشيف ما وراء البحار الفرنسي، تكشف مسار قافلة من عرش حميان "البكاكرة" انطلقت من شمال جبل عيسى مرورا بتيورطلت نحو ڨورارة. تُعدّ شهادة نادرة عن واقع القوافل التجارية في أواخر القرن التاسع عشر؛ وتُبرز بدقة تنظيم الرحلات عبر الصحراء، وعمق المعرفة المحلية بمسالك الماء، وتظهر استمرار التقاليد التجارية رغم بسط السيطرة الاستعمارية، إلى جانب الإشارة الصريحة لتجارة العبيد والسياق الأمني المتوتر بعد مقاومة الشيخ بوعمامة.
تُبيّن الوثيقة وصول القافلة إلى قصور ڨورارة (أولاد عيسى، شروين، الخنافسة، أولاد راشد، السهلة المطارفة، أبرينكات، بودة)، بعضها بقي قائما إلى اليوم وبعضها اندثر. ففي هذه القصور تمت عمليات "الكيل" و"المكوث"، مما يؤكد أنَّها كانت أسواقا ومحطات لتفريغ البضائع وإعادة التزود.
كما سجلت لقاء القافلة في قصر أولاد عيسى مع قفل الرزاينة الغُرابة والشراقة وبني مطهر من حكم تراب سعيدة، وهو مؤشر على شبكة تجارية واسعة تتقاطع فيها قوافل من مناطق متعددة في تبادل منظم ومترابط.
المبيت في "سيدي براهيم فم العرڨ" (عند فم العرق الرملي الكبير) يؤكد أن القافلة اضطرت لاجتياز كثبان رملية هائلة تشكل تحديا لوجستيا جسيما، وتستلزم جهدًا إضافيا لحمل الماء والأحمال الثقيلة. وتُسجل الوثيقة بدقة مصادر المياه، فتتكرر عبارات مثل: «فيه الماء»، «رفدوا الماء من...» و«ليس فيه الماء»؛ فاضطرت القافلة، على سبيل المثال، إلى التزود من "الآثلاث" لتغطية مراحل متتالية، بما في ذلك المبيت في "سيدي براهيم فم العرڨ" و"الختيتيلة" و"ربط أولاد نهار" حيث لم يكن الماء متوفر. هذا الوصف يجسّد معاناة الطريق وحقيقة ندرة الماء، وضرورة حملها مع ثقل الأحمال، ويبرز المعرفة العميقة بمسالك الصحراء — دلالة على استمرارية الخبرة المحلية رغم بدايات السيطرة الاستعمارية.
ويبدو أن كاتب الوثيقة — على الأرجح عون فرنسي أو مخبّر محلي تابع للإدارة — تتبّع المراحل اليومية بدقة، خاصة أماكن المبيت ومصادر الماء (الغدير، الحاسي، تيورطلت... )، مما يدلّ أن السلطات الفرنسية كانت تراقب القوافل لأسباب أمنية واقتصادية، خصوصا في زمن الشيخ بوعمامة، الذي يرد اسمه في نهاية السجل بعبارة: «ليس عندي حتى خبر عليه». تعكس هذه الملاحظة محاولات الإدارة الاستعمارية تتبع طرق الإمداد والاتصال بين القبائل، كما أن توثيق اللقاء مع قافلة الرزاينة دون تعامل يُظهر حذر متبادل في مرحلة سياسية متوترة. ذكر بوعمامة يضع الرحلة في سياق ملاحقة وهدوء حذر عقب المعارك الكبرى.
تجارة العبيد (البعد الاجتماعي والاقتصادي)
تؤكد الوثيقة صراحة البعد الاجتماعي والاقتصادي لتجارة الرقيق، إذ أحضرت القافلة أربعة عبيد وأربعة خدم. وتدلُّ الأسماء المسجلة للمشترين (بما في ذلك كبير القافلة) على أن امتلاك العبيد والخدم كان حكرا على أكابر القوم والتجار الأثرياء. وتورد الوثيقة أن الأسعار تراوحت بين 60 و84 دورو؛ على سبيل المثال اشترى كبير القافلة عبدًا بسبعين دورو. وقد سُجلت هذه المعاملات بنبرة عادية من دون استنكار، ما يوضح أنها كانت ممارسة اجتماعية واقتصادية عادية مألوفة في زمنها، قبل أن تُجرَّم رسميا عد ذلك بسنوات طويلة. تعكس الأسعار العليا قيمة المملوكين كجزء من الثروة والتبادل، وتبرز بنية اجتماعية هرمية تجعل تجارة الرقيق امتيازا محصورا في أوساط النخبة.
بهذا، تُجسّد الوثيقة لوحة واقعية دقيقة لحركة القوافل، ومعرفة الصحراء، وتوازن القوى بين المحلي والاستعماري، في زمن ظلّ فيه الاقتصاد الصحراوي نابضًا رغم شح الماء وقيود الاحتلال.
ملاحظة هامة:
الإشارات إلى تجارة العبيد كما وردت في الوثيقة، تقرأ في إطارها التاريخي وضمن سياقها الاقتصادي آنذاك، لا كتبرير ولا كإدانة، ودون إسقاط لأحكام أخلاقية من منظور اليوم، بل كشهادة على واقع اجتماعي مضى.
.
نص الوثيقة:
12 فيفري
1890م
ڨفل البكاكرة القادم من ڨورارة
كبير القافلة عبد القادر ولد المامون
اليوم الأول من دوارهم باتوا في ضلعة عيسى رفدوا الماء من تيورطلت اليوم الثاني باتوا في حجاج فيه الماء، اليوم الثالث باتوا ارجم المواعيد رفدوا الماء من حجاج اليوم الرابع باتوا فالڨارة الغشوا، رفدوا الماء من مغرار التحتاني ،اليوم الخامس باتوا في سيدي براهيم اڨريش فيه الماء، اليوم السادس باتوا فالاوتيدات فيها الماء، اليوم السابع باتوا في مشرع بوسير وجدوا فيه الماء نتاع الغدير، اليوم الثامن باتوا في ابويب الرحايل رفدوا الماء من مشرع بوسير غدير، اليوم التاسع باتوا في المعمورة ظلوا فيها يومين وفيها الغدير، اليوم العاشر باتوا فالزاوش فيه لغدير، اليوم الحادي عشر باتوا الاثلاث فيه الغدير، اليوم الثاني عشر باتوا في جرف الاطفال رفدوا الماء من الاثلاث، اليوم الثالث عشر باتوا في زملت منصور رفدوا الماء من الاثلاث، اليوم الرابع عشر باتوا في سيدي براهيم فم العرڨ ليس فيه الماء رفدوا الماء من الاثلاث اليوم الخامس عشر باتوا الختيتيلة غريم الماء من الاثلاث، اليوم السادس عشر باتوا ربط اولاد نهار غريم الماء من الاثلاث، اليوم السابع عشر باتوا الزكار فيه الماء حاسي، اليوم الثامن عشر باتوا الثمايد فيها الماء، اليوم التاسع عشر باتوا في اولاد عيسى من قصور ڨورارة فيها الماء، كانوا يومين في اولاد عيسى ويوم العشرين افترقوا البعض من الڨفل ذهب إلى شروين والبعض ذهب إلى الخنافسة وبهذه القصور كيلوا، والكثير من الڨفل ذهبوا في اليوم الحادي والعشرين باتوا في الظمرانة رفدوا الماء من تاسفاوت، اليوم الثاني والعشرين باتوا في اولاد راشد فيها الماء وفيه كيل البعض ومكث فيه، وفي اليوم الثالث والعشرين باتوا في السهلة المطارفة زوج قصور وفيها بقي البعض وكيّل، واليوم الرابع والعشرين باتوا في ابرينكات فيها الماء وبقي البعض من الڨفل وكيّلوا منه، وفي اليوم الخامس والعشرين باتوا الْغُرَيسَة حاسي فيه الماء، ويوم السادس والعشرين باتوا في بودة وفيها كيلوا ومكثوا أربعة عشر يوم ويوم الخامس عشر خرجوا من بودة ورجعوا على طريقهم الأولى حتى الى اولاد عيسى، من بودة إلى اولاد عيسى مسيرة سبعة أيام ومكثوا فيه يومين واليوم الثالث خرجوا وباتوا في حاسي حيدة فيه الماء، اليوم الرابع باتوا حاسي العمارة فيه الماء ومن العمارة جاؤوا على طريقم الأولى حتى إلى دوارهم.
في قصر اولاد عيسى تلاقاوا مع ڨفل الرزاينة الغرابة والشراڨة وبني مطهر من حكم تراب سعيدة ولم يتكلموا على شيئ.
وأتوا بأربعة عبيد وأربعة خدم
كبير الڨافلة عبد القادر ولد المامون اشترى عبد ب سبعين دورو
العربي ولد عبد الله بن مراح، عبد ب اثنين وسبعين دورو
عيسى ولد محمد، عبد ب ستين دورو
علي بن غربال، عبد ب ستين دورو
العربي ولد الطيب اشترى خادم ب ثمانين دورو
بن الطيب ولد العربي، خادم ب ثمانين دورو
بن احمد ولد احمد بن الزين، خادم ب اربعة وثمانين دورو
سليمان ولد بن احمد، خادم ب سبعين دورو.
اخبار بوعمامة قال ليس عندي حتى خبر عليه ولا سمع عليه شيئ ولا رءاه.
انتهى نص الوثيقة.
.
أحمد عقون أكتوبر 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق