عين الصفراء بعد قرابة نصف قرن من الاستقلال..


تحوّلت مدينة عين الصفراء، أحد أكبر التجمعات الحضرية بالجنوب الغربي من البلاد، وأهم مناطق الاستقطاب السيّاحي سنوات الثمانينيات، إلى ما يشبه ''مدينة أشباح''. غالبية فئات مجتمع عين الصفراء، الذين صادفناهم وحدثناهم، لا يتوانون عن التنديد بسياسات التهميش والإقصاء التي صارت تنتهجها مختلف قيادات المجالس الشعبية المُتعاقبة، خصوصا خلال العشر سنوات الماضية.
تُعد عين الصفراء إحدى أكبر دوائر ولاية النعامة مساحة وتعدادا سكّانيا، بإجمالي يتجاوز 52 ألف نسمة، وإمكانيات طبيعية هامة، مُتمثلة أساسا في تربعها على مساحات واسعة من الأراضي الصالحة للزراعة، وتوفرها على إمكانيات الري، إلا أن الزائر لا يلبث أن يكشف غياب أبسط وسائل العيش الكريم، وملاحظة حقيقة توسع الطابع الريفي الرعوي على حساب تراجع مظاهر الطابع الحضري.
مدينة الوحل والحفر
بمجرد تساقط بضعة مليمترات من الأمطار، تشهد جُلّ أحياء المدينة حالة شلل شبه تام، بما في ذلك أحياء وسط المدينة، التي تتحوّل، طيلة فصل الشتاء، إلى ''مستنقع كبير''. وهذا ما أثار ولا يزال يثير حالتي سخط وتذمر واسعتين في أوساط السكّان، خصوصا على مستوى حي ''كاستور''، هناك أين صادفنا بعض القاطنين الذين سارعوا إلى مصارحتنا بأسفهم العميق إزاء تأخر المجالس البلدية المُتعاقبة في تنفيذ وعود التهيئة الحضرية اللازمة، التي، بعد كل عملية ترميم، تكشف عن هشاشة الجهود، في ظل غياب المتابعة والمراقبة التقنية الحقيقية، حيث يؤكد السيد علي.ب، أحد سكان الحي، قائلا: ''كل مشاريع التهيئة الحضرية الموّجهة للحيّ تظل مشاريع -آنية- تهدف إلى تزويق الظاهر وإخفاء هشاشة الباطن''.
حالة حي 5 جويلية لا تختلف كثيرا عن حالة حي كاستور، كلما تساقطت كميات، ولو ضئيلة، من الأمطار، يجد السكّان أنفسهم في مواجهة مد الوحل الذي يحد، بشكل ملحوظ، من حركة السائقين، متسببا في إثارة تذمر الراجلين. نفس الملاحظة يمكن تسجيلها على مستوى وسط المدينة، بمحاذاة مقر أمن الدائرة وقبالة مقر البلدية، أين صار أبناء عين الصفراء يتحاشون كثيرا المرور عبر هذين المحورين بسبب حالتيهما المتردية والتي صارت تزداد سوءا يوما بعد آخر. أما المُفارقة التي لا تزال تثير سخرية سكان عين الصفراء فتتمثل في شروع الولاية في تشييد مساحة خضراء، قبالة مقر البلدية، مخصصة لاستقبال العائلات أيام العطل وأوقات الفراغ، بينما تظل الطرق والأرصفة غير صالحة للراجلين العاديين.
يقول السيد عبد القادر.ق، أحد المقاولين السابقين: ''صرنا نخجل كثيرا أمام الزوار الأجانب، حيث كانت عين الصفراء سنوات الثمانينيات مزار السيّاح الأجانب، وتحوّلت اليوم إلى دوّار. لا تستحق حتى تسمية القرية. لو ألقينا نظرة، من الأعلى، لخيل إلينا أن عين الصفراء تعرضت لقصف جوي بسبب العدد الكبير من الحفر الناجمة عن الأمطار، موازاة مع غياب مشاريع التهيئة الحضرية الجادة''. ويُضاف إلى إشكالية ضعف مشاريع التهيئة الحضرية تباطؤ المجلس الشعبي البلدي الحالي في إعادة ترميم الجسر الرابط بين وسط المدينة ومنطقة القصر، الذي يُعد أحد أهم شرايين المدينة، والذي تهاوى السنة الماضية، بسبب فيضان الوادي، مما يضطر السكان، رجالا ونساء وأطفالا، إلى المشي على الأقدام بغية بلوغ ضفتي الوادي، مُجتازين، ما لا يقل عن 300 متر من الوحل والرمل. أدت هذه الحالة المُعيشة، التي أبانت عن سلبيات سلوكيات المقاولين المهنية، بالسكان إلى تداول مقولة ساخرة تفيد أنه في عين الصفراء: ''تبني تُخْلص! تهدم تُخْلص!''. توالي فشل المشاريع، إضافة إلى تساهل المقاولين في القيام بعملهم، دفعت السيد علي.ب إلى مخاطبتنا، بنبرة غضب، قائلا: ''المُقاول الراغب في تكوين ثـروة بأسرع وقت ليس أمامه سوى الإسراع في احتكار المناقصات الخاصة بعين الصفراء''. واستفسرنا السيد محمد بن واز، نائب رئيس المجلس الشعبي البلدي، عن الحالة المتردية التي بلغتها أحياء وشوارع المدينة فقال: ''الله غالب، نحن نعاني كثيرا من تساقط الأمطار''. مشيرا إلى افتقار رئاسة المجلس البلدي الحالية إلى الحلول العاجلة.
10 درجات تحت الصفر
وأطفال يُعانون السرطان

بالنظر إلى موقعها الجغرافي، بالجنوب الغربي من الجزائر، تتميز مدينة عين الصفراء بالمُناخ السهبي، المعروف ببرده القارس شتاء، أين تتراوح درجات الحرارة، خلال الثلاثي، من ديسمبر إلى غاية فيفري، ما بين (10-) درجات إلى (15) درجة في أحسن الحالات، وصيفها الحار جدا، أين تبلغ درجة الحرارة (40) درجة تحت الظل، مما يضطر السكان إلى انتهاج حياة يومية جد صارمة، لا يقضون حاجياتهم اليومية، ولا يرتادون الشوارع، سوى خلال ساعات معدودة من اليوم. مع ذلك، ورغم قسوة الطبيعية إلا أن ربط بيوت عين الصفراء بغاز المدينة لم يتجاوز، إلى حد الساعة، عتبة 60%، حيث يظل ما لا يقل عن 30% من السكان يعيشون على قارورات البوتان، بينما لا تزال فئة أخرى، وقفنا عليها وعاينّاها، تعيش حياة جد بدائية، معتمدة فقط على الحطب والفحم. وعن سبب امتناع كثير من العائلات عن وضع العدادات وإتمام إجراءات الربط بغاز المدينة، يقول نائب رئيس المجلس الشعبي البلدي: ''السبب الرئيس هو، بكل بساطة، حالة الفقر والبؤس التي تمس عددا هاما من العائلات التي تجد نفسها عاجزة على توفير مستحقات الربط ودفع فواتير استهلاك غاز المدينة الذي لم يصل المدينة سوى منذ سنتين''. ويواصل المُتحدث نفسه مؤكدا على حقيقة إن بعض العاملين في قطاع سونلغاز يجدون أنفسهم، بسبب كثـرة المصاريف اليومية، وعدد أفراد العائلة الكبير وما تتطلبه من نفقات يومية مُتعددة، غير قادرين على توفير خدمة غاز المدينة. أما حيي ''حمّار'' و''مويلح''2 فيُعدان أكثـر الأحياء بؤسا بسبب افتقادهما أصلا إلى توصيلات غاز المدينة، مما أثار تذمر السيدة خديجة.ر التي صادفناها في مويلح2 والتي خاطبتنا قائلة: ''نحن أحياء ولكننا أموات'' قبل أن تضيف بصيغة التساؤل: ''أليست هذه مدينة عين الصفراء! مدينة التاريخ وثورة الشيخ بوعمامة والرجال الصالحين! (...) زارنا منذ بضع سنوات رئيس الجمهورية الحالي وأغرقنا بالوعود إلا أننا لم نر، إلى غاية اليوم، شيئا على أرض الواقع''. أما السيد عبد القادر. ق فيقول، معبرا عن نفس الحالة: ''في هذه المدينة، نقضي الصيف ركضا خلف العقارب التي صارت تقاسمنا الفراش، وفي الشتاء نركض بحثا عن ركن دافئ كي لا نموت بردا''. مع العلم أن كثيرا من بيوت سكان عين الصفراء لا تزال ذات أسقف من الزنك، وجدرانها تقوم على الطوب والطين. أما حي الـ52 فيُمثل أحد الأحياء التي تعبر، بامتياز، عن حالة ''الغبن''، بسبب افتقاره إلى الكهرباء. أضف إلى ذلك أيضا غياب الإنارة العمومية في كثير من الأحياء، مما يُغرق المدينة، مع بداية كل غروب، مباشرة، في ظلام دامس. غياب وسائل العيش الكريم صار يؤثـر سلبا على مردودية أطفال المدارس، البالغ عددهم حوالي 000,10 متمدرس، مُقسمين على 25 ابتدائية، 9 إكماليات، و4 ثانويات، هذا ما التمسناه خصوصا على مستوى إكمالية ''سمية بنت الخياط''، حيث يقول السيد ب.ل، أستاذ الفيزياء: ''في ظل افتقارنا إلى وسائل التدفئة، بشكل دائم، صرنا مضطرين، في غالبية الأحيان، إلى تقديم الحد الأدنى من الدروس فقط، ملتفين في القشابية والجلابة. بينما تضطر الفتيات إلى الانقطاع عن التمدرس مبكرا''. وأكد المتحدث نفسه أنه بسبب قيام هذه الإكمالية على بناء جاهز ذي قاعدة حديدية، فقد تم تسجيل، خلال السنوات الأخيرة الماضية، عديد حالات السرطان التي تتسبب فيها مادة الأميونيت السامة وسط الأطفال المتمدرسين، مما عجل بمطالبة إدارة الإكمالية بأهمية اتخاذ الإجراءات اللازمة، حيث أشار النائب إلى الشروع في تشييد إكمالية جديدة، على قطعة أرض مجاورة، بنية هدم الإكمالية الحالية، التي صارت تشكل خطرا على حياة الأطفال، في أقرب الآجال. كما أننا نلتمس بالمدينة توسع نسبة الأمية، خصوصا بين الأوساط النسائية، رغم المجهودات الهامة التي تبذلها ''الراهبات'' الثلاث المقيمات في عين الصفراء، التابعات إلى أسقفية الأغواط واللواتي يقدمن خدمات تعليمية خيرية لصالح الأطفال والنساء الماكثات في البيوت. من جانب آخر، وعلى صعيد الخدمات الاجتماعية، نلاحظ أنه، من بين عيادتين خاصتين ومستشفى، لا يتوفر سكان المدينة سوى على مصحة أمومة واحدة. إلى جانب معاناة السكان إزاء قلة خدمات النقل، سواء على المحور الرابط بين عين الصفراء وعاصمة الولاية أو محور عين الصفراء والقرى المُجاورة.
''الطراباندو أو سوق الكيف''
يؤكد نائب رئيس المجلس الشعبي البلدي أن مجمل مداخيل البلدية المالية لا تتجاوز مليار و200 مليون سنتيم سنويا، التي يُدرها كراء السوق الأسبوعي، الذي يتم تنظيمه كل يوم اثنين، بمحاذاة المقبرة اليهودية. هذا المبلغ الذي لا يُلبي الحد الأدنى من مدفوعات صيانة عتاد البلدية، ولا يغطي مجمل أجور العمال. كما تؤكد مصادرنا أن المجالس الشعبية الماضية خلفت مديونية بمقدار 12 مليار سنيتم، أضف إلى ذلك العدد الهام من العمال الذين لم يتلقوا أجورهم منذ ثماني سنوات. في ظل افتقار مدينة عين الصفراء إلى بنية تحتية صناعية وغياب مبادرات المستثمرين الفلاحيين، تجد فئة الشباب نفسها أكثـر الفئات تضررا، مع توسع دائرة البطالة، وتواصل التهافت على مناصب ''الشبكة الاجتماعية'' التي لا تغطي أكثـر من 50% من الطلبات، حيث لم تستفد البلدية السنة الماضية إلا من 600 منصب مقابل 1200 طلب. وأمام استمرار هذا الوضع، لم يعد الشباب يجد وسيلة لكسب الرزق سوى من خلال اللجوء إلى ممارسة ''الطراباندو'' أو ما يُصطلح على تسميته السوق الموازية، مستفيدا من أفضلية القرب الجغرافي من حدود المملكة المغربية التي لا تبعد سوى بـ60 كلم، حيث تعرف سوق ''الكيف'' نشاطا هاما، كما أن المدينة تشكل أحد المعابر الرئيسة في تزويد المدن المجاورة، يضاف إلى ذلك توسع دائرة ''تجار الشيفون''، حيث يقول الشاب ميلود، الذي صادفناه بأحد محلات بيع الألبسة الجاهزة في حي الصومام، بمرارة وملامح تائهة: ''هذه هي الدنيا. نلت شهادة الدراسات التطبيقية في الهندسة الميكانيكية، ولكن لم أجد عملا قارا. حدثني أحد الأقارب عن إمكانية التوجه إلى حاسي مسعود والعمل في إحدى القواعد البترولية، ولكن، الله غالب''.. مضيفا: ''في بلادنا، كل شيء يسير وفق منهج العلاقات الشخصية (...) الأكيد أننا سنضطر، مع حالة البطالة التي نعيشها، إلى أكل الدود''. يذكر السيد بوداود.ب أن سكان عين الصفراء، شبابا وشيوخا، قاموا، منذ بضع سنوات، بتجمهر حاشد أمام مقر السينما، بوسط المدينة. كما أن شهادات بعض السكان التي استقيناها تشير إلى اتساع ظاهرة التنقل بين طرفي الحدود الجزائرية-المغربية على ظهور الحمير -التي كثيرا ما تعترضها مُضايقات دوريات مصالح حرس الحدود- بغية الحفاظ على الصلات القرابة العائلية.
طالعين ولا هابطين..
لسبانيا غاديين!
دفعت حالة افتقار مدينة عين الصفراء إلى وسائل العيش الكريم، وكذا غياب البنية التحتية الموّجهة لفئة الشباب، حيث لا تتوفر المدينة على أكثـر من ملعب كروي واحد، تغيب عنه المستلزمات الرئيسية لممارسة نشاط كرة القدم بالشكل المتعارف عليه، إضافة إلى قاعة سينما واحدة، تعيش حالة ركود، ولا تفتح أبوابها، سوى خلال مناسبات تنشيط الحملات الانتخابية، إضافة إلى افتقار داري الشباب إلى كثير من الوسائل التنشيطية.. كل هذه العوامل دفعت شباب المدينة إلى التفكير بشكل جاد، في الهجرة إلى الخارج، خصوصا إلى إسبانيا، هذه الوجهة المُحببة التي صار اسمها يتردد على ألسنة الكثيرين، على غرار الشاب نورالدين الذي جالسناه بإحدى مقاهي ''حي السعادة''، الذي لم يتوقف، طيلة ساعة من الزمن، عن إعادة سرد قصة ابن عمه ''لخضر''، تقني سامي في الإعلام الآلي، المقيم حاليا بمدينة اشبيليا، الذي هاجر سرا إلى إسبانيا على ظهر أحد القوارب، انطلاقا من شواطئ تنس، خفية عن والديه، والذي نجح، في غضون خمس سنوات في تسوية وضعيته القانونية والزواج من مغربية. مؤكدا على نيته في بذل قصارى جهده بغية النجاح مثل ابن عمه، متمسكا بالمقولة الشائعة: ''طالعين ولا هابطين..لسبانيا غاديين''.
حالة الشاب نورالدين تعبر عن وضعية وطريقة تفكير السواد الأعظم من شباب عين الصفراء الذي لم يعد يحلم سوى بالهجرة كحل أنسب لمواصلة العيش الكريم.
لا تكاد تسمع غير عبارتي:
الله غالب.. وطاف على من طاف

في مدينة عين الصفراء، أين لا نكاد نسمع سوى عبارتي ''الله غالب'' و''طاف على من طاف''، يلتمس الزائر التحول الكبير، وحالة التقهقر الملحوظة التي عرفها البلد، خلال العشريتين الأخيرتين. فبعدما كانت المدينة تعج سابقا بالسياح، يطوفون بين ضريح الكاتبة العالمية إيزابيل ايبرهاردت، والصخور المنقوشة بجبال تيوت، مما كان يوفر كثيرا من فرص العمل ولقم العيش للعائلات، صارت المدينة، التي تكاد تكون خالية من سكانها، تعيش ما يشبه ''حالة سبات'' إلى أجل غير مسمى.
سعيد خطيبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق