محطة الصخور المنقوشة ام الشڨاڨ.
تقع المحطة جنوب قرية الدغيمة، على مسافة 12 كلم، تتبع إقليميا لبلدية المحرّة ولاية البيَّض (الجنوب الغربي الجزائري)
تضم منطقة جنوب الدغيمة مجموعة هامة من نقوش حيوانات العصر الحجري الحديث، كالفيل، الكباش المتوجة، الجاموس، النمر، الظباء، الكلاب، طائر النعام، مشاهد الإنسان، وصور منممة غير واضحة المعالم، تم تجسيدها على جداريات متفاوتة المسافة على مساحة إجمالية تقدر بحوالي 120 كلم مربع، كما تدل كثافة النقوش المتواجدة في هذه المساحة على أن المكان قد تم تعميره من قبل إنسان العصر الحجري لأمد طويل، ربما يرجع سبب ذلك إلى توفر منابع مياه هامة في تلك الفترة، ونظرا للطبيعة الجيولوجية لبعض الجداريات المكونة من الرمال الرسوبية الخشنة، فإن العوامل الطبيعيىة قد ساهمت في ارتفاع درجة تآكل بعضها في بعض الأماكن، إلا أن ذلك لم يمنع من التعرف على الأنماط أو الأساليب الثلاثة للفترة الطبيعية القديمة للعصر الحجري الحديث والتي تم على أساسها تم إنجاز هذه النقوش عبر فترات طويلة وهي: الفترة الطبيعية الكبرى (الجاموس العتيق)، الفترة الطبيعية المنممة، وأسلوب تازينة.
ونظرا لأهميتها التاريخية والأركيولوجية فقد كانت محل اهتمام كبار علماء ما قبل التاريخ الذين زاروا المنطقة وعاينوا نقوشها أو أشاروا إليها في كتاباتهم نقلا عن سابقيهم، بدءا بفلاموند سنة 1892م، ثم عالِم الإنسان الألماني فروبينيوس "Leo Frobenius" سنة 1925م، بعدها خضعت لدراسة وصفية من قبل عالم الأحياء الفرنسي Rymond Vaufrey سنة 1939م، ومنذ ذلك الحين صارت مزارا للعديد من علماء آثار ما قبل التاريخ على غرار العالم الفرنسي هنري لوت "Henri Lhote" الذي زارها سنة 1955م ثم قدمها في كتابه Les gravures rupestres du Sud Oranais سنة 1970م. ثم العالم الإيطالي موزيليني سنة 1991م، والباحثة الجزائرية مليكة حشيد سنة 1992، وعالم الطبيعة والجيومورفولوجيا François Soleilhavoup سنة 2003.
من خلال الاطلاع على الأبحاث السابقة فقد لاحظت بعض الخلط في ترتيب هذه المحطات وتسمياتها، ربما يرجع ذلك إلى أن من زار المنطقة من الباحثين لم يقوموا بتوثيق جميع المحطات المتواجدة بالمنطقة، وبعضهم أخذ عن سابقيه دون التثبت من تسمية كل محطة وموقعها، لهذا فقد قمت بإعادة ضبط مواقع هذه المحطات ومحتوياتها، ووصف كل محطة على حِدة حتى يسهل توثيقها وجردها من قبل الجهات المختصة، وقد قمت بترتيب هذه المحطات وإعادة وصفها مع محطة ڨارة الطالب وڨارة التبن وڨارة سموطة، فبقيت خمس محطات ساقدم في هذا المنشور أولها وأهمها وهي محطة أم الشڨاڨ.
1- محطة ام الشڨاڨ:
رغم أن هذه المحطة تعد من أهم وأجمل وأروع المحطات في الأطلس الصحراوي، ورغم أنها ليست بعيدة المسافة عن فيل الحجرات الحمر، إلاّ أن فلاموند لم يحالفه الحظ في اكتشافها ولم ينتبه لوجودها عندما زار المنطقة سنة 1921م، إلى أن جاء العالم الألماني فروبينيوس سنة 1925م فكان له فضل اكتشافها.
تعدُّ هذه المحطة من الروائع الخالدة في الفن الصخري التي شاهدتها بالأطلس الصّحراوي، براعة النقش، وسحر الأشكال، وهيبة المكان، يجعلون منها لوحة فنية تاريخية نادرا ما نشاهد مثيلاتها في العالم، وللأسف فإن هذه التحفة لم تأخذ حقها الكامل من البحث والدراسة، كما لم تأخذ حقها في الإعلام والإشهار، ولو كان ذلك، لكانت محطة جذب هامة للسياح والباحثين في المجال.
على صخرة عملاقة يقدر حجمها بـ30م³ يبدو أنها تدحرجت من أعلى الجرف الحجري الذي يحدّ ضاية ام الشڨاڨ من الجهة الغربية، وعلى واجهتها الأمامية التي تزيد مساحتها عن 14م²، أبدع فنان العصر الحجري واحدة من أجمل مشاهد النيوليتيك الصحراوي، صور سريالية لحيوانات منقرضة كانت تجوب سهول الأطلس الصحراوي المغطاة بالسافانا، ومشاهد لحياة إنسان ذلك العصر، تحاكي طقوس الصيد والسحر. فقد تم استغلال جدارية الصخرة بشكل منتظم للغاية تظهر فيه مجموعتين من النقوش، على اليسار: مجموعة الكباش، وعلى اليمين: مجموعة الإنسان والكلاب في مواجهة الجاموس والنعامة.
تحظى مجموعة الكباش بأكبر قدر من الاهتمام في الجدارية بأكملها، فمن جهة تمثل تركيبة فريدة من نوعها، ومن جهة أخرى تقدم معان أكثر غموضًا وغرابة فنيا ورمزيا، هنا نرى مشهدا سرياليا لكبشين متداخلين مع بعض بشكل جانبي ومتعامد مع الصخرة، بخطوط مصقولة ولامعة على شكل حرف U وهو عمل استثنائي متميز نادرا مع نجد له مثيلا، تم تفسير المشهد من قبل فروبينيوس على أنه شخصيات بشرية رجل وامرأة، لكن الشكل لا يظهر أي أعضاء بشرية، فالحوافر تظهر واضحة على الأرجل، والأكتاف والرأس والرقبة شبيهة بتلك التي عند فصيل الماشية، يحدد فوفري جنس كل منهما، فالذي على اليمين ذكر والذي على اليسار أنثى، ويشكك لوت في جنس الأنثى، معتبرا الشكل نوع من الأجنّة السيامية المتلاصقة، مايدعم ذلك وجود حلقة دائرية محيطة بالرسم تتخذ شكل كيس المشيمة الرحمية، وليس من المستبعد أن يلاحظ إنسان ذلك العصر ولادة أجنة غريبة ومتلاصقة، وقد تولد بعضها حية وتعيش فترة من الزمن..
في اعتقادي يدل هذا المشهد على وجود كائنات أسطورية في مخيال إنسان العصر الحجري تعكس اعتقادات وممارسات طوطمية موغلة في القدم، خاصة وأن مشاهد الكائنات الغريبة ليس استثنائيا في العديد من نقوش الأطلس الصحراوي، كما أن العلاقة بين الإنسان وتقديس الكبش في تلك الفترة معلومة وأثبتتها الكثير من الأبحاث الأثرية والتاريخية، وهو ما يفسر وجود نوع من الغنم متوّج بكل الرموز الطقسية المعروفة حينها بجوار المشهد، مثل الطوق المزين بالزخارف، والهالة التي على شكل قرص الشمس فوق الرأس وباقة من ريش النعام فوقها، في هذه المحطة يظهر أن جنس هذا النّوع من الغنم هو أنثى وليس ذكر عكس العديد من المحطات التي يظهر فيها الكبش في وضعية تقديس وتبجيل، حيث يظهر الضرع في المشهد جليّا وحمل صغير يتبع أمه برع إنسان النيوليتيك في إظهار حركة الحملان الصغيرة وهي تثب وتقفز بجوار القطيع، وذلك من خلال أطرافه الدقيقة المتناسقة وانحناءات الظهر التي تعطي للمشهد حركية وروحا فنية غاية في الروعة والجمال، كما بتتويجه هو كذلك بالطوق وقرص الشمس وريش النعام؛ يقابل مشهد الشاة رجل بأسلوب تخطيطي وهو في وضعية يمارس خلالها طقوس صلاة أو حركات سحرية ما، يصعب تفسيرها مع إبراز عضو الذكورة رمز الخصوبة والبقاء، وهو رمز شائع في نقوش الأطلس الصحراوي حيث غالبا ما نشاهد امتزاج طقوس الجنس والدين، أسفل الشاة نلاحظ جزءا من حمل آخر متوّج ومزين بريش النعام يظهر أنهم جميعا من الأسلوب ومن نفس الفترة والعصر، وهي الفترة البقرية ذات الأبعاد الكبيرة.
في الأسفل يمكنك أن ترى تحت المشهد عدة ثدييات صغيرة مجسدة بتقنية النقر والتنقيط أنجزت بعد المشاهد الرئيسية على فترات متفاوتة.
أما على يمين المحطة فنلاحظ في مواجهة الجاموس والنعامة الكبيرة، رجل ذو تصميم تخطيطي يمارس طقسا دينيا معيّنا ويرفع ذراعيه لأعلى، وهو وضع يتم تفسيره تقليديًا حسب مليكة حشيد على أنه تعبير عن التأمل أو العشق، مع إبراز العضو الذكري، يرافق الرجل الذي يبدو أنه هو الصياد نفسه كلبين وهما في وضعية استعداد لمواجهة خطر داهم، يؤكد هذا المشهد على استئناس الإنسان للكلاب منذ عصور قديمة، وربما ساهم الغطاء النباتي الكثيف حينها في انتقاء الإنسان لنوع من الذئاب جهورية الصوت صناعيا لاستئناسها لتنبيهه من خطر الحيوانات المفترسة الوحشية المتربّصة خلف أعشاب السّافانا، وهو ما يفسر وجود الكلب مرافقا للإنسان ومقابلا للأسد في العديد من مواقع النقوش الصخرية بالمنطقة، أما النعامة فقد كانت من الطرائد المفضلة لدى إنسان النيوليتيك، وليس من المستبعد أن تكون هي غذاء الآلهة كما أصبحت بعد ذلك في مصر القديمة.
لا يبدو أن المجموعة الموجودة على يمين الجدارية تنتمي لنفس الفنان الذي جسد المشاهد التي على يسارها، فأسلوبها رديئ وتفاصيل المشاهد أقل جودة، والخطوط لم يتم صقلها بشكل كاف، وإن كان كلاهما بنفس الزنجرة، ومن نفس الفترة، الفترة البقرية ذات الأبعاد الكبيرة.
لحسن الحظ لم تتعرض المحطة للتخريب البشري على غرار الكثير من المحطات رغم وجود بعض الكتابات القديمة التي ترجع لفترة الاس
عمار الفرنسي 1902م ، وذلك بفضل الحماية التي يوفرها لها بدو المنطقة، وبهذه المناسبة أتقدم بجزيل الشكر للسيد بلال عبد الجبار الكرومي على كرم الضيافة ومرافقته الطيبة لنا.
أحمد عقون 2023.
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق