القبور الجنائزية بجبل تالبونة ولاية النعامة



القبور الجنائزية بجبل تالبونة ولاية النعامة. من بين أقدم أهرامات شمال إفريقيا.

يتضح من خلال التنقيبات الأركيولوجية المرتبطة بالقبور الما قبل تاريخية في شمال أفريقيا، أن أسلاف الأمازيغ قد آمنوا بحياة أخرى بعد الموت. فقد كانوا يدفنون موتاهم في قبور هرمية بدائية تعرف علميا باسم التيميليس "Tumulus" وهو تقليد قديم جدا، ونظرا للأبحاث  التي أجريت على العديد من هذه القبور الجنائزية من حيث شكلها وهندستها ومحتوياتها وحتى وظائفها، فإن نتائج هذه الدراسات تدفعنا إلى الاعتقاد أن هذا التقليد يسبق تقليد بناء الأهرامات في مصر.
فمن حيث وظيفتها، ترتبط أساسا بالمقدّس.. الموت، الحياة الاخرى، الزيارات، التّبرك، السّحر.. اذ تبدأ هذه الوظيفة المقدّسة من كونها طريقة خاصّة في دفن ميت خاص وفي هذا تلتقي مع الاهرام- فانتشار هذه القبور الجنائزية بهذ الشكل والعدد الكبير في بلاد المغرب الكبير قد يفسر لنا أيضا انتشار ظاهرة "المرابوتيزم" أو "تبجيل الأضرحة"، فانتشار هذه الظاهرة يمكن أن يجد تفسيره في هذه القبور الجنائزية وما ارتبط بها من معارف ومعتقدات قديمة متغلغلة في الثقافة الشعبية التي شكلت الأرضية الاعتقادية التي قامت عليها الأضرحة، فظهور أي ديانة جديدة في شمال إفريقيا لم يكن حائلا دون استمرار طقوس وعادات من راسخة من ديانة قديمة.
أما من حيث المحتويات فقد عثر العديد من الباحثين الذي قاموا بحفريات في المنطقة؟ - من بينهم دوسيني 1904م، والعالم م. بوتي 1905م- على العديد من المقتنيات والأدوات الجنائزية بداخلها، على غرار أواني فخارية وحلي وقشور من بيض النعام، بالإضافة إلى رفاة الموتى التي كانت غالبا ما تدفن في وضعية جنينية مع طلي أطرافها بالمغرّة الحمراء بعد نزع اللّحم من العظام، هذا في اعتقادي يدل على أولى المحاولات البدائية لتحنيط الموتى قبل دفنهم، تماما مثل ظاهرة التّحنيط في مصر القديمة.
أما من حيث الشّكل فإن هذه القبور الجنائزية تشبه إلى حد ما أهرامات مصر من حيث الشّكل والتّصميم، وإن كانت أكثر بدائية منها، وأقل إتقانا بكثير من باقي الأهرامات الأقل شأنا من أهرامات مصر، فقد بنيت على شكل هرمي محدّب يحاكي شكل البطن ورحم الأم الذي سيستقبل رفاة الميت المحنّط والمدفون بوضعيّة جنينية، هذا الاعتقاد يجعل من القبر مرحلة انتقالية أخرى تشبه مرحلة الحمل،ليمر من خلالها الميت لحياة أخرى جديدة.
هذا وقد عرفت هذه القبور تطورات عدة عبر التّاريخ من حيث شكلها، إلى أن وصلت إلى الأضرحة الملكية التي تتميز بضخامتها وشكلها الجميل، وهو ما يتجلى في الهرم النّوميدي الذي بلغ ارتفاعه تسعة عشر مترا، وكذا الضّريح الموريطاني الذي بلغ ارتفاعه ثلاثين مترا،.
اليوم سنتعرّف على إحدى هذه المقابر التّاريخية الهامة وغير المعروفة، التي تعتبر حلقة وصل بين المقابر الجنائزية البدائية الأولى وبين الأضرحة الملكية المتقدمة، فعند السّفح الشّمالي لجبل تالبونة على ارتفاع 1290 متر فوق سطح البحر، بين بلدية عسلة وبلدية النعامة بالقرب من قرية مسيف، تتواجد إحدى أهم وأقدم هذه القبور الجنائزية بمنطقة الجنوب الغربي في الجزائر. ففي مساحة واسعة في أعلى التّلة يتفاجأ الزّائر  إلى المنطقة من تواجد هذا العدد الكبير من القبور الجنائزية القديمة، والتي تتعدى 40 قبرا جنائزيا على شكل أهرام دائرية مختلفة الأحجام، وهي تتخذ شكلا مخروطيا محدبا بقاعدة دائرية مبنية بالحجارة الجافة المسطّحة، رصّ بعضها ببعض بعناية فائقة على ارتفاع يزيد عن المتر قليلا فوق سطح الأرض، وتختلف أبعاد القبور حسب أحجامها، إذ يتراوح قطرها ما بين 04م و11م، وعلوّها بين 02م و3.5م. وقد يصل محيط القاعدة بها إلى 30 مترا.
تتوفر هذه القبور الهرمية على فتحات مستطيلة في الجهة المقابلة للشّرق - مع ما يحمله ذلك من رمزية مقدسة- تفضي إلى غرف مبنية إلى وسط القبر، طول ضلعها قد يصل إلى 70 سم، وطول الصّخرة التي استعملت كمنار في أعلى المدخل قد يصل إلى 03 أمتار طولا. والتي يظهر أن الهدف من وجودها كان لأغراض عقائدية بدائية، وهو السّماح لصاحبها بالاتصال بالعالم الخارجي، هذه الغرفة الجنائزية مسقفة بكتلة حجرية مسطّحة وكبيرة، وهي مبنية بحجارة منتقاة بعناية فائقة لتشكل صندوقا جنائزيا مبنيا فوق الأرض وليس محفورا داخل القبر.
أما ما يميز هذه القبور الجنائزية أساسا هو تاريخ بنائها، فمن جهة هي أحدث مقارنة بمقابر التيميليس الأخرى المعروفة،  والتي تأتي على شكل ركام من الحجارة المجمّعة، ومن جهة أخرى بدائية مقارنة بغيرها من المعالم الجنائزية في شمال الجزائر، مثل أهرامات لجدار بتيارت التي بنيت في حدود القرنين الرّابع والسّابع قبل ميلاد المسيح، وضريح إمدغاسن العائد إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وضريح ماسينيسا العائد إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وبعده ضريح موريتانيا الذي يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد والمعروف بقبر الروميّة.
نشير إلى أن هذه القبور الجنائزية قد تعرضت في مجملها إلى النّهب والتخريب، خاصّة القبور التي تقع عند سفح الجبل والتي هي أقرب للطريق الترابي الذي تسلكه شاحنات جمع حجارة البناء وذلك من خلال استعمال حجارتها في عمليات البناء من طرف سكان المنطقة الذين يجهلون أهميتها، أو نهبها من طرف الباحثين عن الكنوز الذين تداولوا فكرة أنها مليئة بالذهب والمعادن الثمينة، وهي فكرة قديمة لدى غالبية من يعرف هذه القبور، وهي فكرة مغلوطة أسالت لعاب كل طماع أثيم في عرف عاداتنا، نباش معتد على حرمة الموتى،  ويظهر أثرهم جليا من خلال نبش القبور وفتح غرفها الجنائزية ونهب محتوياتها وتخريب شكلها الهندسي، الأمر الذي يتطلب من الباحثين والجهات الوصية الإسراع في إجراء دراسات علمية متخصصة في أسرع الآجال من أجل تحديد الفترة الزمنية التي ترجع إليها، إضافة إلى إمكانية تصنيفها وحمايتها قبل اندثار هذه المعالم الأثرية وانقراضها من المنطقة.
عقون أحمد جوان 2019.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق