الشيخ محمد كبير بن رابح بلقاسم بن محمد رابح بن بلقاسم بن محمد بلحسن الحسني القراري البوتخيلي التلمساني الجزائري

 نص مداخلتي حول ملخص سيرة الشيخ محمد كبير بن رابح الحسني الجزائري.

الفصل الأول: الجذور والنشأة والهجرة الأولى (1878 – 1906)

وُلد الشيخ محمد كبير بن رابح بلقاسم بن محمد رابح بن بلقاسم بن محمد بلحسن الحسني القراري البوتخيلي التلمساني الجزائري سنة 1878م بالقرب من المنصورة بتلمسان، في بيتٍ أصيلٍ جمع بين النسب الحسني الشريف، والعلم، والتصوف، والكرم العربي الأصيل.

 والده محمد رابح بن بلقاسم بن محمد بلحسن من مواليد 

1820

 بقصر مغرار الفوقاني، ووالدته كلثومة بنت السيد بوبكر بن الطيب البوتخيلي من بيت علمٍ وصلاحٍ من أولاد سيدي بوتخيل.

هجرة والده من قصر العين الصفراء الى تلمسان 

عرفت منطقة العين الصفراء التي وُلد فيها والده محمد رابح اضطرابات عنيفة منذ منتصف القرن التاسع عشر. ففي 5 ماي 1847م زحف جيش الجنرال كافينياك من تيوت باتجاه قصر العين الصفراء لإخضاعه، بعدما كان سكانه من مؤيدي الأمير عبد القادر.

استقبل القائد الفرنسي اثنان من أعيان القصر وأخبراه بأنهم من الشرفاء الذين لم يخضعوا لضريبة أو سلطة أجنبية. لكنّ الجيش الفرنسي اقتحم القصر وارتكب مجزرة، استُشهد فيها سبعة من المدافعين، بينهم رجال من حميان الغرابة وقبائل زڭدو.

تلتها حملات متكررة: سنة 1849.1856. 1857. 1859.1861

هذه الحروب المتكررة دمّرت القصور والزرع وأجبرت العديد من الأسر على النزوح شمالاً.

بعد مقتل قايد تيوت سنة 1872 ودخول المنطقة في فوضى عارمة، قرر محمد رابح بن بلقاسم مغادرة العين الصفراء متجهًا إلى تلمسان سنة 1873م، رفقة عدد من عائلات قصر سيدي بوتخيل الذين طالتهم حملات المصادرة والضرائب.

في تلمسان، وجد في العلم ملجأه، وفي الزهد طريقه.

وفي 1875 قُتل شقيقه مولاي الشيخ وعمره عشرون عامًا، "خديعةً وظلمًا"، كما تذكر المذكرات، ما عمّق في نفسه الحسرة والاغتراب.

ثم أدى والده أدى الحج سنة 1876 مشيًا على الأقدام، واستغرقت رحلته عامًا كاملاً. مرّ خلالها من فاس وتونس ومصر والحجاز، ودوّن الطريق الذي سلكه بدقة.

عاد بعدها إلى تلمسان وتوفي سنة 1878م ودُفن بمقبرة سيدي حمو في بني صميل، تاركًا ابنه محمد كبير رضيعًا لم يتجاوز عمره بضعة أشهر.


طفولة بين القرآن والمعمل

نشأ محمد كبير يتيم الأب، حفظ القرآن في سن الرابعة على أيدي شيوخ الكتاتيب التلمسانية، ثم التحق بالمدارس الفرنسية حيث تعلم اللغة الفرنسية وأتقنها نطقًا وكتابة.

 ظروف الفقر واليتم دفعته مبكرًا إلى العمل. اشتغل أولًا في مصنع صغير لصناعة المعكرونة سبع سنوات، ثم في معمل كبير للعجائن والخبز تابع لأحد المعمّرين مدة ثمان سنوات أخرى.

هنا تشكلت شخصيته العملية الصلبة


بداياته العلمية

كانت تلمسان يومها تعج بالعلماء والزاويا، فكان يتردد على مكتبة الشيخ محمد بن عبد الرحمن الهاشمي، حيث المطبعة الحجرية الصغيرة التي تطبع كتبًا دينية تحرّض على مقاومة الاحتلال.

هناك التقى بمجموعة من العلماء، منهم الشيخ محمد بن يلس مقدم الزاوية الشاذلية الدرقاوية، فقرأ عليه علوم الفقه والتصوف، وتأثر بأسلوبه في الجمع بين الإصلاح الديني والموقف الوطني.


زواج وتطلع إلى الأصل

في سنة 1898 تزوج من السيدة أمينة بنت أحمد فقراوي السنوسي، من أسرة علمٍ معروفة بتلمسان. 

وفي سنة 1900 شدّ الرحال نحو العين الصفراء، زائرًا أرض أجداده. وكان عمره 22 سنة

استُقبل هناك استقبالًا رسميًا من طرف صديقه العربي بن الحاج محمد بلعربي، خليفة الباشا آغا سي مولاي، بحضور حاكم المدينة وفرسان السبايس وعروض البارود، مما يعكس مكانته بين الأهالي. وربما قد يكون ذلك اشارة الى استمالته ومداراته وجبر خاطره على ما تعرض له والده والعديد من ابناء المنطقة من تهجير ونهب لممتلكاتهم. 

في اليوم التالي توجه رفقة بعض الرجال من قصر العين الصفراء إلى قصر مغرار الفوقاني، كان في استقبالهم القائد المجدوب، وهناك اكتشف أن أملاك والده قد استولى عليها بعض الأهالي بعد أن قتل جده خطأ من قبل أحد أبناء بلدة مغرار الفوقاني. فحدثت فتنة بين الأهالي واستغل بعض الموالين للمستعمر الفرنسي الفوضى العارمة التي كانت تعم المنطقة واستوالوا على أملاك والده. 

ورفع الأمر إلى المحكمة الشرعية في العين الصفراء، فصدر حكم بإرجاع الأملاك له وتعويضه عن استغلال الأرض عشرين سنة، فعاد بعدها إلى تلمسان راضيًا.

بعد وفاة والدته سنة 1902، عاد إلى العين الصفراء ليطالب بأملاكه، لكن نفوذ الباشاغا سي مولاي حال دون استرجاعها. وبعد مضايقات تعرض لها سافر إلى فجيج لزيارة الشيخ بوعمامة، صديق والده القديم.

فاستقبله الشيخ استقبال الكرام، وذكر له فضل والده الذي ساعده في بناء زاويته بمغرار التحتاني وكان كثير الترحم عليه. 

فمكث عنده ثلاثة أيام، وهناك شهد اللقاء التاريخي بين بوعمامة ووزير السلطان المغربي المهدي المنبهي الذي جاء بأمرٍ من السلطان عبد العزيز لإخراج الشيخ بوعمامة من فجيج، بعد ضغط سلطات المستعمر الفرنسي على ملك المغرب، هناك أخبره الشيخ بوعمامة أن سلطات الاستعمار الفرنسي تضيق عليه وعلى جميع المشائخ وأهل العلم، قد سجل الشيخ محمد كبير تفاصيل دقيقة عن لحظات الوداع، وكيف رفض رجال الشيخ بوعمامة وبعض أهل فجيج قرار السلطان وقالوا: "لن نغادر ولو كلفنا الأمر أن نباد جميعًا".

ثم دعاهم الشيخ إلى التريث والحكمة قائلاً: "دعوة الشر على اللي يشعل نار الحرب بعدي".

 الى درجة أنه كاد الناس ان يتقاتلوا فيما بينهم، أمر الشيخ بوعمامة رجاله بأن يحملوا المتاع والسلاح وأن يخرجوا في تلك الليلة بعد أن كادت الفتنة والانشقاق تأتي على وحدتهم، وهي شهادة حية تعطينا صورة قريبة عما كان يحدث يومها في فجيج. 

اخذ معه الشاي وباعه وربح فيه الخير الكثير 

الرحلة الأولى إلى الحج (1904–1906)

بعد عودته الى تلمسان وفي سنة 1904 عزم على أداء فريضة الحج وكان في عمر 26  سنة، فشرع في التحضير للحج سريا لأنه لم يكن يملك تصريحا للحج من قبل سلطات الاستعمار الفرنسي  بعد ان رفضت منحه إياه، ، وبعدها بدأ رحلته الحجية الأولى فسافرا سرا إلى وجدة هناك اضطر للتحايل واستطاع الحصول على تصريح للحج عن طريق معارفه بصفته وجدي، ثم عاد الى تلمسان بعد ان أمن زوجته وأولاده وترك لهم ما يكفيهم من الزاد، ومن هناك انطلق الى الغزوات وكان معه 22 فرنك فقط، وقد استغرقت رحلته هذه عام ونصف،

وفي طريقه كان يصف كل ما شاهده في طريقه، وفي الغزوات شاهد الكثير من عسكر السلطان عبد العزيز الهاربين من رجال الجيلالي الزرهوني الملقب بوحمارة، الذي قاد حركة تمرد كبيرة على السلطان. 

ومن الغزوات ركب السفينة متجها إلى مليلية، ثم جبل طارق، ثم طنجة، وكان حينها لا يملك شيئا من المال، الى درجة انه اشتغل في الدلالة وهي بيع الملابس المستعملة على ظهر السفينة حتى يؤمن لنفسه بعضا من قوت يومه. 

وحين نزوله في ميناء طنجة تم اعتقاله من قبل مخزن السلطان للاشتباه به أنه من رجال بوحمارة أو من الفارين من فرنسا، وأودع السجن. وفي السجن عاتبه بعض من كان معه في السفينه وقالوا له ولو ادعيت أنك يهودي لأطلق سراحك، فاجابهم ما عاذ الله ولا قوة الا بالله، 

فمكث في السجن شهرا أو يزيد ثم اطلق سراحه بعد ان تأكدوا من هويته وبعد أن دفع غرامة مالية. 

وعند خروجه من السجن اشتغل في الميناء وفي صناعة العجائن وفي احدى المرات جاءه ضيوف من تلمسان فاكرمهم واضافهم ولما رجعوا الى تلمسان اخبروا اهله انه تزوج هناك فصار القيل والقال بن الأهل. بعدها في آواخر ديسمبر 1904

استقل سفينة اسبانية من طنجة ومنها الى ميناء الجزائر ثم مالطا ثم الإسكندرية في رحلة دامت 12 يوم، ومن الإسكندرية سافر الى القاهرة ومكث فيها 3 أشهر 

. وقد التقى فيها بالكثير من التلمسانيين و لازم مسجد الإمام الحسين والأزهر لأخذ الدروس وزياة الأولياء الصالحين هناك. 

ثم من القاهرة سافر الى فلسطين الى يافا التي أصبحت اليوم صهيونية..  وفيها زار مسجد المحمودية الذي طمس الاحتلال الإسرائيلي أغلب معالمه اليوم، ومن يافا توجه الى القدس الشريف الى حي المغاربة هناك زار زاوية سيدي بومدين الغوث دفين تلمسان وسكن فيها ومكث اياما معتكفا في المسجد الأقصى مدة عشرين يوما ومنه سافر الى الخليل مشيا على الأقدام وزار هناك العديد من مقامات الانبياء وابنائهم وزوجاتهم، وزار بيت لحم ومغارة ميلاد السيد المسيح عليه السلام داخل كنيسة المهد. 

ثم عاد الى القدس الشريف وفيه مكث مدة شهرين في زاوية سيدي بومدين ، وفيها يتم إطعام جميع المغاربة إلا الطرابلسيين أهل طرابلس كما ذكر، والزاوية وقف لسيدي بومدين دفين تلمسان وهبها له صلاح الدين الأيوبي عرفانا له على قيادته المغاربة الذين شاركوه الجهاد في معركة حطين التي قطعت فيها ذراع سيدي بومدين أثناء المعركة. 

وقد زار فيها جميع المعالم المعروفة يومها والتي بعضها لم يعد له وجود بعد الاحتلال الإسرائيلي. 

وفي زاوية سيدي بومدين في القدس الشريف أخذ العديد من الدروس والأذونات والاجازات من قبل العلماء والمشائخ منهم شيخ الزاوية البشير فيلالي، 

ومن القدس سافر مشيا الى الرملة وزار مقام النبي صالح ومنها عبر السفينه الى يافا ومنها الى بور سعيد بمصر. 

ومنها الى مدينة القنطرة إلى مدينة المنصورة، ثم السنبلاوين ثم الزقازيق ثم الى القاهرة مرة ثانية، 

واشتغل فيها في مجال التجارة مدة ثلاث أشهر. 

بعدها سافر جنوبا الى مدينة البهنسا وفيها زار العديد من مقامات الصحابة والتابعين. 

ثم عاد الى القاهرة واجتمع بالشيخ عبد السلام الحلاق وقرأ عليه كتاب الحج، وكان كل يوم يحضر دروس الشيخ أحمد بوعروق التلمساني في الأزهر الشريف نهارا ودروس شيخ الأزهر محمد عبده، وفي الليل يشتغل في تجارة البلغ والطرابيش ليوفر قوت يومه، 

... وفي أواخر ديسمبر 1905

اتجه الشيخ محمد رابح نحو القباع المقدسة من القاهرة مرورا بالسويس ومنها إلى ينبع إلى المدينة المنورة بعد أن استأجر ثلاثة جمال، وحين وصوله نزل ببيت الشيخ أحمد الرفاعي حيث الزاوية الرفاعية وفيها زار قبر النبي ص وجميع معالمها، وقرا كتاب الحج عند الشيخ عبد القادر المهاجي التلمساني وهو أحد كبار علماء المدينة المنورة يومها، ومكث في المدينة المنورة مدة 33 يوما. 

ومن المدينة المنورة الى مكة المكرمة دامت رحلته اثنا عشر يوما، وفي مكة المكرمة التقى بالعديد من ابناء بلده التلمسانيين ومن أبناء العين الصفراء من بينهم، الحاج الغوتي، الحاج محمد بلعربي، والسيد الملياني بن يوسف مفتي العين الصفراء  

(يمكن هنا قراءة طرفة شجار الجمل) 

وعند إتمام مناسك الحج عاد الى جدة، ومنها الى بيروت وفي الباخرة التقى بكثير من الرجال الذين هاجروا مع الأمير عبد القادر إلى الشام، 

ومن بيروت الى الإسكندرية، ومن الإسكندرية الى مارسيليا، وكان معه تصريح عثماني، ومنها الى ميناء وهران، ودخل تلمسان يوم 29 مارس 1906 حيث كان أهله وأصدقاؤه ومعارفه في استقباله.  وفي اليوم الموالي حكم عليه بالسجن 3 اشهر لمخالفته الخروج بدون تصريح وخفف عليه الحكم بعدها ل3 ايام. 

وهكذا اختُتمت رحلته الأولى الكبرى، التي دامت عامًا ونصف، جمعت بين المغامرة، والعلم، والروحانية، والجرأة في تحدي السلطة.

.

بعد عودته من الحج بدأ الشيخ محمد رابح في التفكير جديا في الهجرة نهائيا إلى المدينة المنورة، بعد المضايقات التي عاشها رفقة العديد من أهالي تلمسان من قبل سلطات الاستعمار الفرنسي، وفي سنة 

1909 بدات سلطات الاستعمار الفرنسي في إحصاء الشباب وتحضيرا لمشروع قانون التجنيد الإجباري ، فكان ان رفض اهل تلمسان مشروع القانون وخرجوا في مظاهرات عارفة في شوارع تلمسان وفرقتهم سلطات الاستعمار بالقوة، وقد أفتى الشيخ محمد بن يلس والقاضي شعيب بن علي ومفتي ديار تلمسان حاج جلول شلبي بوجوب هجرة الشباب إلى المشرق حتى لا يشاركوا في اي حرب مع فرنسا،

وفي يوم 11 أكتوبر 1910 بدأت رحلة هجرته الى المشرق مع عائلته رفقة بعض العائلات التلمسانية، وهم يحملون معهم جوازي سفر واحد فرنسي انطلقوا به من وهران إلى طنجة المغربية، ومنها الى المشرق بجوازات سفر مغربية بعد ان حصلوا عليها بصفتهم مغاربة من وجدة، تاركين وراءهم جميع املاكهم وضيعاتهم وبيوتهم كما هي حتى لا يتم توقيفهم من قبل الاستعمار الفرنسي من خلال اعطائه انطباع ان ذاهبون للعمل في طنجة ثم يعودون.

وكان معه يومها زوجته وابنيه بلحاج وأحمد،

بعد ان مكثوا أياما في طنجة غادروها الى مالاڨا الاسبانية في باخرة هولندية وبقوا هناك أياما ومنها إلى جزيرة مالطة ومنها إلى إزمير بتركيا، وهناك عرضت عليهم السلطات العثمانية البقاء في ازمير وإعطائهم أراضي وأملاك وبيوت الأرمن التي صادرتها منهم، فرفضوا أن يأخذوها باعتبار أنها ملك للغير ولو كانوا نصارى، فتعجب الأتراك منهم بأن يرفضوا هذه النعمة المجانية، فرد عليهم الشيخ محمد رابح أنهم مهاجرون في سبيل الله ولا يريدون أن يفسدوا هجرتهم هذه بأخذ أرزاق غيرهم، لأنها حرام في ديننا، وفي أواخر سنة 1910 غادروا إزمير باتجاه الإسكندرية، ومكثوا فيها أياما منها اتجهوا إلى بيروت عبر باخرة إيطالية صغيرة وفي الباخرة وقعت مشاجرة كبيرة مع طاقمها بعد أن اعتدوا على سي عبد القادر مرابط صديق الشيخ وأوقفوهم عند حدهم فأصبحوا يهابونهم، وقد اشتكى من غلظة وسوء معاملتهم.

ومن بيروت غادروا باتجاه الشام، 

فوصلوا الى دمشق يوم 1 ديسمبر 1910

ونزلوا فيها مدة ثمانية أشهر، وهناك التقى الشيخ بالعديد من العائلات الجزائرية المهاجرة . 

وقد اشتغل في المهن الحرة لإعالة عائلته هناك. 

ثم أمرت السلطات العثمانية بوجوب مغادرتهم دمشق باتجاه أضنة بتركيا بعد أن وعدتهم بأن تمنحهم السلطات أراضي وأبقار ومنازل فغادر رفقة عائلته ومعه قرابة مئتي عائلة تلمسانيين ذكر بعضا من أسمائهم بعضهم ترجع أصولهم لمدينة العين الصفراء. فانطلقوا نحو بيروت وهناك وجدوا باخرتين تقلان نحو ست مائة شخص مهاجرين من تلمسان رجال ونساء من بينهم الشيخ محمد بن يلس التلمساني. 

ومن بيروت إلى مرسين بتركيا، ومنها إلى أضنة حيث تم نقلهم إلى قرية سيس قوزان التابعة لمحافظة أضنة معظم سكانها أرمن، وقد أمرت السلطات السكان ان كل من يملك بيتا في بستان ان يتركه مفتوحا ويترك المفتاح في الباب وكل من يخالف لا يلوم إلا نفسه، وأمرت المهاجرين أن يسكنوا البيوت، غير أن الشيخ محمد رابح رفض أن يأخذ أرض غيره، وبعد ان اتصل بأحد الضباط المسلمين 

الذي منحه بستانا تابعا للحكومة واشتغل فيه رفقة بعض العائلات المهاجرة مدة ستة أشهر، بعدها نقلتهم السلطات إلى ألاتين نسبة إلى السلطان السلجوقي علاء الدين واشتغلوا فيها مدة خمسة أشهر وهناك التقى بعائلات من قسنطينة وغليزان. ويصف الشيخ المنطقة أنها بلاد وعرة كثيرة الجبال والغابات ومهجورة وهو سبب منحها للمهاجرين بغرض تعمريها وفرض السيادة عليها، في المقابل منحت السهول والأراضي المنبسطة للأتراك وقد غضب الشيخ غضبا شديدا من هذه القسمة الضيزى؛ يقول الشيخ في مذكراته:

"وكنا نظن بان الحكومة كانت ستعطينا في ذلك السهل وبعد مرور شهور جاء احد من طرف الحكومة وجمع المهاجرين وكان سكران وصار يقسم لهم في الجبال بدون مقياس ولا غيره من الادوات الهندسية, وقالوا له ما هذه الجبال التي تقسمها لنا وتركت السهل، فقال لهم السهل له اصحاب فحارت المهاجرين ماذا تفعل وانا كنت وقت القسمة غائبا في اضنة، ولما قدمت واخبروني بذلك زعلت زعلا شديدا حتى مرضت بالسخونة، ثم بعد ذلك ذهبنا لنخبر المتصرف في سيس (قوزان) وهو حاكم البلد من اجل بعض اشغالنا فسألنا بالتركية أليس فيكم من يعرف الفرنساوية, فأجبته بالفرنسية نعم وماذا تريد, فقال لماذا جئتم من بلادكم فقلنا له جئنا مهاجرين لله ورسوله ولامير المؤمنين ولعدم عدل الحكومة الفرنسية في المسلمين وبتأميرها اليهود علينا, فقال لنا حاشى ذلك إن فرنسا دولة منظمة لا تفعل ذلك ولكن انتم متوحشين وعصاة ففررتم فرارا وجئتم لهذه البلاد تهاجرون اليها ثم تعصون الحكومة، وكانت الحكومة الفرنسية سلطت الجواسيس على المغاربة من حين خرجوا من بلادهم وهم يلاحقوهم ويرجعوهم فمنهم من أرغموه على الرجوع من طنجة ومنهم من أرجعوه من بيروت"

انتهى الاقتباس

.ثم أخبرهم أنهم سيعطونهم ٱرض مثل أرض كاليدونا الجديدة، عندها أدرك الناس أنهم ينوون نفيهم إلى مكان ما. وبعد أن سألوا عن الحاكم ان كان مسلما فقيل لهم أنه نصراني يوناني يريد شرا بهم. فغادر الشيخ ألاتين باتجاه سيس وبقي فيها مدة خمس شهور، وفي تلك الفترة اندلعت حرب البلقان الأولى بين الخلافة العثمانية ودول اتحاد البلقان، 

فاجتمع المهاجرون وقرروا وضع أنفسهم تحت تصرف الخلافة العثمانية للجهاد والدفاع عن أراضيها، فجمعت عائلاتهم في محتشد في سيس كوزان، ونقل الشيخ رفقة المهاجرين إلى أضنة للمشاركة في الحرب، وعند وصولهم الجبهة توقفت الحرب وعقدت الهدنة بتاريخ 30 مارس 1913. 

بعدها وصلهم خبر استشهاد رفيقه عبد القادر مرابط في مرسين. 

وبقي الشيخ رفقة المهاجرين يشتغلون في الزراعة وتقاسم الغلة مناصفة مع ملاكها، إلى أن جاء موسم الحج فقرر التوجه إلى البقاع المقدسة، فباع جميع أغراضه، ثم سافر أواخر نوفمبر 

1913 إلى الحميدية ومنها الى مرسين ومنها الى بيروت ثم الشام، وبقي مدة بدون عمل إلى غاية قيام الحرب العالمية الأولى هناك شهد قيام جمال باشا الحاكم العثماني على بلاد الشام بشنق اثنا عشر رجلا من أكابر الشام منهم الأمير عمر ابن الأمير عبد القادر بعد ان اتهم زورا بالتخابر مع الفرنسيين. 

وذكر الشيخ أن الخبز والقمح والمؤونة كانت نادرة جدا وكان وقتها مريضا بالحمى وأرادت السلطات التركية تجنيده غصبا رغم مرضه فدفع غرامة 44 ليرة عثمانية ذهبية كما أرادوا تجنيد ابنه القاصر محمد عدنان عن عمر اربعة عشر سنة اشتكى ذلك لمسؤول الأمن بدمشق فتعرض للتعنيف والضرب بأعقاب البنادق فازداد عليه المرض رفقة ابنه مدة أشهر حتى تعافيا. 

ثم اشتغل في جمع العنب وتجفيفه زبيبا وبيعه. 

وفي سنة 1918 

سافر رفقة ابنه أحمد إلى بيروت بغرض شراء سكن هناك، ثم عاد إلى دمشق ووجد الأمير عبدو الجزائري ابن الأمير عبد القادر يجمع المغاربة للجهاد ضد الانكليز في فلسطين. وحضر تخريب قوات المانيا وحرقها مستودعات السلاح  وشهد مقتل الأمير عبدو في منطقة العفيف عندما كان يزور قبر جده الأمير عبد القادر بعد أن أطلق عليه أحد الجنود رصاصة من نافذة أحد المنازل وتم توقيف الأمير سعيد.

وقد غادر الشيخ رفقة ابنه والشيخ محمد الهاشمي الى بيروت وفي الطريق تم توقيفهم ومصادرة مسدسه وتغريمهم لانهم خالفوا حضر التجول، وفي الطريق إلى بيروت ذكر الشيخ أنه شاهد القتلى في كل مكان يمين وشمال الطريق من خيل وبني آدم.

..

الفصل الثالث 

عندما قيام الثورة السورية: تعاون مع الثوار ضد الاحتلال الفرنسي، وكان يتواصل مع الضابط الجزائري عطاف المغربي والجنود الجزائريين الذين يقاتلون في صفوف الجيش الفرنسي لنقل السلاح والأخبار إلى الثوار السوريين.

كما شارك في نشاطات جمعية تحرير شمال إفريقيا، وفتح بيته بدمشق لاستقبال المجاهدين الجزائريين، ومنهم عبد الرزاق بوحارة ورفاقه سنة 1956 أثناء فترة تدريبهم العسكري في سوريا

لازم المحدث الكبير الشيخ محمد بن جعفر الكتاني

يخدمه ويلازمه في دروسه ومجالسه.

وفي سنة 1925 شارك مع الشيخ الكتاني والسيد محمد مكي الكتاني في رحلته الشهيرة إلى الهند، والتقوا بعلماء (باكستان حاليًا) واطلعوا على أحوال المسلمين هناك.

 كما لازم الشيخ أمين السويد ، والشيخ بدر الدين الحسني ، والشيخ محمد البيضاوي ، والشيخ محمد الكافي ، والشيخ محمد الحلواني .

سكن أولاً بحي القزازين في دار باعها ، وانتقل منها إلى كيوان ، وعمر هناك داراً كبيرة ، وعمل مع آخرين على إنشاء مسجد كيوان المعروف على جانب النهر .

حج من دمشق على الجمال سنة 1922 هـ ، وكان معه كل أهله وحالاً

... 

أسس سنة1920 بجانب الجامع الأموي في دمشق مكتبة الشرق.

اهتمت المكتبة بطباعة ونشر الكتب التعليمية والدينية والأدبية، وأوكل إدارتها إلى إبنه محمد عدنان ، وأصبحت مركزًا يجتمع فيه العلماء والمثقفون، ومقرًا لتواصل الجالية الجزائرية مع السوريين.

في سنة 1930 اشترى الشيخ محمد كبير أرضًا في حي كيوان بدمشق، وبنى فيها دارًا مع حديقه على الطراز المغاربي الأندلسي، لتكون مقرًا لعائلته ومكانًا يجتمع فيه الأصدقاء والعلماء. من بينهم البشير الإبراهيمي 

وبعد سنوات قليلة، وتحديدًا سنة 1936، بادر ببناء مسجد كيوان الذي ما يزال قائمًا حتى اليوم.

.

في فلسطين: كان يسافر بانتظام إلى مدينة سمخ على بحيرة طبريا، حيث اجتمع بالجالية الجزائرية هناك وساهم في توعيتهم. كما حضر مؤتمر القدس حول فلسطين برفقة صديقه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي. وبعد نكبة 1948 إستقبل العديد من أبناء الجالية النازحين من قراهم في فلسطين.

و زار الأمير عبد الكريم الخطابي مرات عديدة في مكان إقامته بمصر


الفصل الثامن: الصداقة مع البشير الإبراهيمي


كان الشيخ محمد كبير صديقًا مقربًا للشيخ البشير الإبراهيمي، رائد النهضة الجزائرية. تبادلا الزيارات، وتعاونا في خدمة الجالية الجزائرية بالمشرق.

وقد جمعهما حب فلسطين، فسافرا معًا إلى القدس، وأسهما في نقل صوت الجزائر إلى المحافل الإسلامية.

كما كان يتردد إلى بغداد لزيارة ضريح القطب سيدي عبد القادر الجيلاني، وقد نال إجازة من القائم على المقام، مما رسّخ مكانته الروحية ضمن السلسلة القادرية


: وفاته وآثاره


توفي الشيخ محمد كبير يوم الخميس 28 فبراير 1961 بعد صلاة الفجر. صُلّي عليه في جامع التوبة بإمامة السيد محمد مكي الكتاني، ودُفن في مقبرة الدحداح بدمشق.

ترك ولدين: محمد عدنان وأحمد، وله أحفاد في دمشق يُعرفون بالعلم والخير.


الخاتمة

إن سيرة الشيخ محمد كبير بن رابح بلقاسم الحسني الجزائري تعكس نموذجًا متكاملًا للعالم المسلم:

عالم ومحدث تتلمذ على أعلام الشام والمغرب.

مجاهد ومناصر لقضايا التحرر في الجزائر وسوريا وفلسطين.

مثقف وناشر أسس مكتبة الشرق ونشر المعرفة.

  أشتهر بالسرية وعمل الخير والزهد والتواضع .

المراجع

.... 

مذكرات الراحل الشيخ محمد كبير بن رابح الجزائري .

كتاب تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر هجري. تأليف محمد مطيع الحافظ، نزار اباظة. الجزء ا 

لثالث دار الفكر المعاصر بيروت لبنان 1991 الصفحة

عيسى روشام الاحتلال الفرنسي للجنوب الغربي الجزائري. 2023


.

كتاب

موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين شيخ الأزهر وعلامة بلاد المغرب. تأليف المحامي علي رضا الحسيني. الجزء الحادي والعشرين الصفحة 66

..

مقابلة مع حفيده الدكتور مصطفى بلقاسم الجزائري

مقابلة مع حفيده الأستاذ نور الدين بن عدنان الجزائري

أحمد عقون

نوفمبر 2025










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق