دوامات ما قبل التّاريخ تيوت ولاية النعامة

 دوامات ما قبل التّاريخ تيوت ولاية النعامة

تيوت عجائبها لا تنقضي. 

هذه المرة مع محطة من محطات الصّخور المنقوشة التي تتميز بأسلوب سريالي بدائي فريد منوعه. 

محطّة الصّخور المنقوشة،حجرة الطّير بلدية تيوت. دائرة العين الصفراء، ولاية النعامة. 

تقع المحطّة في أعلى شمال غرب الهضبة الحجرية المعروفة محلّيا باسم "ضّلعة تيوت" بالقرب من المكان المسمّى حجرة الطّير داخل تجويف صخري استعمل على ما يبدو كمأوى على شكل كهف حجري خلال عصور ما قبل التاريخ، والمحطة تضم مجموعة من النّقوش الصخرية ممثلة في أشكال هندسية ودوامات وخطوط زجزاجية متداخلة يصعب تحديد معانيها ودلالاتها بدقة. 

يتواجد هذا النّوع من الفن الترميزي البدائي في العديد من محطات النقوش الصخرية بالأطلس الصحراوي، وقد وقفت شخصيا على الكثير من المحطات التي تحوي نقوشا من هذا النوع التي يعود تاريخها إلى العصر الحجري الحديث تحتوي على دوامات وخطوط زجزاجية ظهرت أغلب زخارفها بأشكال متنوّعة وبأنماط متعدّدة، كان أشهرها النّمط الحلزوني الذي كان أقرب لخط منحني ينطلق من نقطة المركز وكلما دار حول النقطة يبتعد عنها تدريجيا. من بين هذه المحطات: محطّة مغرار التحتاني، شمال قرية أولقاق، تاغيت، ومحطة واد الشّريعة جنوب شرق الكراكدة ولاية البيض، هذه الأخيرة خصّها عالم الإنسان الألماني Leo Frobenius بدراسة أثرية علمية نشرها في كتابه "الحجرة المكتوبة" سنة 1925م.

يرى عالم الأحياء الفرنسي Rymond Vaufrey أن الدوّامات المتواجدة بمنطقة الطاسيلي ناجر ومنطقة الجنوب الوهراني تعود لنفس الحقبة التاريخية، إذ تم إنجازها على يد نفس المجموعة البشرية التي كانت تستوطن الشمال الإفريقي يومها، وقد قدّم عالم ما قبل التاريخ موريس ريجاس Maurice Reygasse تفسيرا للغرص الذي تم لأجله إنجاز هذه النقوش، معتبرا أن نقوش الدوامات بمنطقة الطاسيلي ناجر مرتبطة أساسا بحيوانات منقرضة كفرس النهر، والجاموس العتيق، التي انقرضت بعد التغيّر المناخي الذي عرفته شمال إفريقيا أواخر العصر الحجري الحديث والذي حول مواطنها إلى صحراء قاحلة. 

وربما أشارت نقوش الدّوامات إلى نوع من الفنون ذات المغزى النفسي والفلسفي، الأمر الذي يفسر كثرة تواجدها وانتشارها في العديد من المواقع الأثرية لعصور ما قبل التاريخ عبر العالم، بحيث لا نجدها في محطات النقوشة الصخرية فحسب، بل قد نجدها منتشرة في الأعمدة الصخرية الميغيالثية المتراصة بشكل دائري، متخذة في تصميمها شكلا أقرب للدوائر المتداخلة أو الدوامة الحلزونية. 

لقد تعددت التفسيرات بشأن نقوش هذه المتاهات التي ظهرت في عصور ما قبل التاريخ، فهناك من يفسرها تفسيرا دينيا بالربط بين الخطوط اللولبية وبين الممارسات الطقسية القديمة التي تتعلق بالموت والبعث والحياة، بحيث يرجّح العالم هيرمان هذا التفسير مقارنا بين اتجاه دوران الخطوط اللولبية وبين دوران الشمس واتجاهاتها، فمع الشمس عند الشروق تكون بداية الحياة، وعكس اتجاه الشمس يكون الموت باعتباره الغروب، أما المركز فهو البعث باعتباره المركز حيث المستقرّ. وهذا النوع من الممارسات غالبا ما يلجأ إليه السّاحر أو الشّامان أثناء ممارسة لطقوس خاصّة. وقد تفرض عليهم الممارسات تناول نباتات مخذّرة للوصول إلى حالة النشوة المطلقة، ومن ثم ربما عبرت هذه الدّوامات الهندسية المتداخلة عن التغيّر الحاصل في الوعي نتيجة تناول هذه النباتات المهلوسة، خصوصا إذا رافقها رقص طقسي من أجل الوصول إلى النشوة، ففي المرحلة المبكرة للهلوسة يرى الفرد عددا محدودا من الأشكال الهندسية، منحنيات.. خطوط شبكية.. دوامات.. لوالب متحركة ذات ألوان قوية.. أو دوائر مختلفة الأحجام، ومع زيادة الجرعة من النبات المخذر وطول فترة الرقص يدخل السّاحر أو الشّامان في مرحلة ثانية من التخيلات ذات طبيعة أشد تعقيدا تنعكس لاحقا على معتقداته وممارساته التي تتجلّى في ما أبدعه من نقوش ورسومات على الصخر. 

فالدوامة بهذا المنظور هي صورة فنية فلسفية تعكس طبيعة فكر إنسان ما قبل التاريخ منذ نشأة الإنسانية، وتعبر عن نوع من الاستمرارية والتواصل، وعن قدر الإنسان وحياته وإحساسه بتلك الزخارف الخطية التي تخرج من دوامة الحياة وتحيط به، وتبين الكثير من تداخلات الفكر الإنساني وتطوّره. 

أحمد عقون 

تيوت أفريل 2021م



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق