عبد العزيز بوباكير، يومية الخبر
في وقت كانت فيه الطبقة الباريسية الراقية تحلم برحلة إلى سويسرا والهند واليونان واليابان، استهوت الجزائر بسحرها الآسر الكاتب الفرنسي الشهير غي دي موباسان ''Guy De Maupassant '' . وكان هذا الاستهواء يشبه رغبة شديدة لا تقاوم، مشوبة بهاجس الاكتشاف، فغادر موطنه في عزّ الصيف، وفي نفسه شغف مشبوب ببلد الشمس والرمال بضوئه الباهر الساطع. وكان يعاني آنذاك أزمة نفسيّة صعبة. فقد ضاق ذرعا ببهرج الصالونات ونفاقها، وصمّم على تطليق حياة التأنّق والمجون والوثنية التي كان يعيشها وسبّبت له فضائح عديدة. فلا غرابة، إذن، إن أخذ يبحث عن آفاق رحبة وضفاف جديدة لم يرها من قبل. وكان يميل بطبعه الشرس إلى الرحلات ويستهويه جمال الطبيعة.
كان موباسان إلى ذلك الوقت كاتبا راسخ القدم في الأوساط المتذوّقة للأدب في صالونات باريس الأرستقراطية، بعد أن لمع نجمه حين نشرت قصته المعروفة "بول دي سويف" التي أثنى عليها معلّمه الكاتب الشهير غيستاف فلوبير ثناء لم يحض به من قبله أحد من كتّاب فرنسا.
غادر موباسان باريس يوم 6 جويلية 1881، رفقة صديقه غاري أليس، ودامت رحلتهما ثلاثة أشهر كاملة، جاب خلالها موباسان الجزائر من أقصاها إلى أقصاها، فتعرّف على مدينة الجزائر بلياليها الرمضانية، وقطع سهل متيجة المترامي الأطراف باتجاه وهران، وعاين عن كثب حياة البدو في أرباض الجلفة وبوسعادة، وأعجب بنمط حياة سكان القبائل، وسحرته شعاب قسنطينة وشواطئ جيجل.
ولعل رغبته في التعرّف على الحياة في الصحراء ومعيشة ''الأهالي''، كما كان يقال آنذاك، هي التي دفعته إلى المغامرة والمخاطرة بحياته، خاصة وأن جريدة '' le Gaulois'' ؛ كانت قد كلّفته أن يكتب لحسابها تحقيقات ومقالات عن الجزائر. وبحسّ الكاتب المحترف، كان يدوّن بانتظام ودقة ملاحظاته ومشاهداته اليومية التي حوّلها بعد عودته إلى باريس إلى مقالات، لكن عمله تعطّل بسبب انشغاله بإتمام قصته حياة ''Une vie '' .
ظهرت هذه المقالات بعد سنتين من رحلته إلى الجزائر، بين 1883 و 1884، في كتاب مستقل، أعيد طبعه عدّة مرات، بعنوان تحت الشمس '' Au soleil'' . ويمثّل هذا الكتاب، بالإضافة إلى قصصه ''الخوف'' و''في المغرب'' و''محمد الوغد''، مجمل مشاهداته وانطباعاته عن الجزائر.
في مقالات ''تحت الشمس''، نكتشف موباسان ككاتب رحلة لامع، وفي أسلوبه تتجلى قدرته التي لا تضاهى في التقاط التفاصيل والجزئيات وإعادة تشكيلها بدقة متناهية، واحترام الصورة الكلّية للواقع في آن واحد. ونجد في هذا الكتاب،أيضا، غزارة الوصف الفيزيقي المرتبط بدروس الملاحظة الموروثة عن غوستاف فلوبير والمدرسة الطبيعية.
لكن في حقيقة الأمر، ليست رغبة الكاتب وحدها الممزوجة بفضول صادق لاكتشاف الجزائر وحبّه لطبيعتها هي التي حفزّته على هذه الرحلة، ولا هو أيضا ضجره من الحياة الباريسية، فهذه الأسباب بذاتها لم تكن الباعث الوحيد لمجيئه إلى الجزائر، إنما كان هناك باعث آخر، وهو الأهّم، وموباسان يعترف بذلك صراحة.إنه الشيخ بوعمامة. في ذلك الوقت، كانت انتفاضة بوعمامة تعّم المناطق الغربية من البلاد، وكان موباسان يعرف ما يشاع في الأوساط الباريسية عن هذه الانتفاضة من حماقات وأقاويل أثارت فضوله ودفعته إلى المجيء إلى الجزائر، ليتعرّف على نفسيّة الجزائريين التي ''لم يهتم بها المستعمرون'' على حد قول الكاتب نفسه. يتحدث موباسان عن انتفاضة بوعمامة ويصفها ''بالحرب الخارقة''، ويحلّل أساليب وفنون قتال الجزائريين، وكرّهم وفرّهم، ومعرفتهم الجيّدة للميدان، ويسخر من عجز جنرالات فرنسا أمام المنتفضين. وما يثير الاهتمام في هذه المقالات هو أننا نشعر أحيانا، ونحن نقرأ المقاطع التي يتحدث فيها عن بوعمامة، برغبة خفيّة لدى الكاتب في لقاء بوعمامة. ولعل هذه الرغبة الخفية هي التي تفسّر مخاطرته بنفسه، وهو يوغل في مناطق غير آمنة، وتفسرها أيضا مواقفه المعادية للمغامرة الاستعمارية، وتنديده بالحرب والعنف واعتباره لهما شرورا عبثية، وهي مواقف منطقية منسجمة مع تجربة الكاتب المباشرة، خصوصا إذا عرفنا أنه شارك، كجندي، في الحرب الفرنسية البروسية، وكان شاهدا على إجهاض ''كومونة'' باريس، وما أعقبها من قمع وتسلّط.
لم يكتب التاريخ لموباسان أن يلتقي بوعمامة، ولعل مصير الكاتب كان سيتحوّل إلى مصير آخر، لو يسّرت الصدف هذا اللقاء. وعاد ثانية إلى الجزائر سنة 1883، لكن هذه المرّة لم يجذبه إليها حبّه لمغارب الشمس في الفضاءات الصحراوية اللامتناهية وفضوله وولعه بشخصية بوعمامة، وإنما جاء هروبا من الموت المداهم، فقد نصحه أصدقاؤه بالذهاب إلى الجزائر بحثا عن الشفاء، بعد أن أصيب بالجنون وحاول الانتحار عدة مرات لكن الجزائر لم تنفعه هذه المرّة، فعاد إلى باريس، واحتجز في عيادة إلى أن فارق الحياة يوم 6 جويلية 1893، وهو غارق في هوّة الجنون السحيق
في وقت كانت فيه الطبقة الباريسية الراقية تحلم برحلة إلى سويسرا والهند واليونان واليابان، استهوت الجزائر بسحرها الآسر الكاتب الفرنسي الشهير غي دي موباسان ''Guy De Maupassant '' . وكان هذا الاستهواء يشبه رغبة شديدة لا تقاوم، مشوبة بهاجس الاكتشاف، فغادر موطنه في عزّ الصيف، وفي نفسه شغف مشبوب ببلد الشمس والرمال بضوئه الباهر الساطع. وكان يعاني آنذاك أزمة نفسيّة صعبة. فقد ضاق ذرعا ببهرج الصالونات ونفاقها، وصمّم على تطليق حياة التأنّق والمجون والوثنية التي كان يعيشها وسبّبت له فضائح عديدة. فلا غرابة، إذن، إن أخذ يبحث عن آفاق رحبة وضفاف جديدة لم يرها من قبل. وكان يميل بطبعه الشرس إلى الرحلات ويستهويه جمال الطبيعة.
كان موباسان إلى ذلك الوقت كاتبا راسخ القدم في الأوساط المتذوّقة للأدب في صالونات باريس الأرستقراطية، بعد أن لمع نجمه حين نشرت قصته المعروفة "بول دي سويف" التي أثنى عليها معلّمه الكاتب الشهير غيستاف فلوبير ثناء لم يحض به من قبله أحد من كتّاب فرنسا.
غادر موباسان باريس يوم 6 جويلية 1881، رفقة صديقه غاري أليس، ودامت رحلتهما ثلاثة أشهر كاملة، جاب خلالها موباسان الجزائر من أقصاها إلى أقصاها، فتعرّف على مدينة الجزائر بلياليها الرمضانية، وقطع سهل متيجة المترامي الأطراف باتجاه وهران، وعاين عن كثب حياة البدو في أرباض الجلفة وبوسعادة، وأعجب بنمط حياة سكان القبائل، وسحرته شعاب قسنطينة وشواطئ جيجل.
ولعل رغبته في التعرّف على الحياة في الصحراء ومعيشة ''الأهالي''، كما كان يقال آنذاك، هي التي دفعته إلى المغامرة والمخاطرة بحياته، خاصة وأن جريدة '' le Gaulois'' ؛ كانت قد كلّفته أن يكتب لحسابها تحقيقات ومقالات عن الجزائر. وبحسّ الكاتب المحترف، كان يدوّن بانتظام ودقة ملاحظاته ومشاهداته اليومية التي حوّلها بعد عودته إلى باريس إلى مقالات، لكن عمله تعطّل بسبب انشغاله بإتمام قصته حياة ''Une vie '' .
ظهرت هذه المقالات بعد سنتين من رحلته إلى الجزائر، بين 1883 و 1884، في كتاب مستقل، أعيد طبعه عدّة مرات، بعنوان تحت الشمس '' Au soleil'' . ويمثّل هذا الكتاب، بالإضافة إلى قصصه ''الخوف'' و''في المغرب'' و''محمد الوغد''، مجمل مشاهداته وانطباعاته عن الجزائر.
في مقالات ''تحت الشمس''، نكتشف موباسان ككاتب رحلة لامع، وفي أسلوبه تتجلى قدرته التي لا تضاهى في التقاط التفاصيل والجزئيات وإعادة تشكيلها بدقة متناهية، واحترام الصورة الكلّية للواقع في آن واحد. ونجد في هذا الكتاب،أيضا، غزارة الوصف الفيزيقي المرتبط بدروس الملاحظة الموروثة عن غوستاف فلوبير والمدرسة الطبيعية.
لكن في حقيقة الأمر، ليست رغبة الكاتب وحدها الممزوجة بفضول صادق لاكتشاف الجزائر وحبّه لطبيعتها هي التي حفزّته على هذه الرحلة، ولا هو أيضا ضجره من الحياة الباريسية، فهذه الأسباب بذاتها لم تكن الباعث الوحيد لمجيئه إلى الجزائر، إنما كان هناك باعث آخر، وهو الأهّم، وموباسان يعترف بذلك صراحة.إنه الشيخ بوعمامة. في ذلك الوقت، كانت انتفاضة بوعمامة تعّم المناطق الغربية من البلاد، وكان موباسان يعرف ما يشاع في الأوساط الباريسية عن هذه الانتفاضة من حماقات وأقاويل أثارت فضوله ودفعته إلى المجيء إلى الجزائر، ليتعرّف على نفسيّة الجزائريين التي ''لم يهتم بها المستعمرون'' على حد قول الكاتب نفسه. يتحدث موباسان عن انتفاضة بوعمامة ويصفها ''بالحرب الخارقة''، ويحلّل أساليب وفنون قتال الجزائريين، وكرّهم وفرّهم، ومعرفتهم الجيّدة للميدان، ويسخر من عجز جنرالات فرنسا أمام المنتفضين. وما يثير الاهتمام في هذه المقالات هو أننا نشعر أحيانا، ونحن نقرأ المقاطع التي يتحدث فيها عن بوعمامة، برغبة خفيّة لدى الكاتب في لقاء بوعمامة. ولعل هذه الرغبة الخفية هي التي تفسّر مخاطرته بنفسه، وهو يوغل في مناطق غير آمنة، وتفسرها أيضا مواقفه المعادية للمغامرة الاستعمارية، وتنديده بالحرب والعنف واعتباره لهما شرورا عبثية، وهي مواقف منطقية منسجمة مع تجربة الكاتب المباشرة، خصوصا إذا عرفنا أنه شارك، كجندي، في الحرب الفرنسية البروسية، وكان شاهدا على إجهاض ''كومونة'' باريس، وما أعقبها من قمع وتسلّط.
لم يكتب التاريخ لموباسان أن يلتقي بوعمامة، ولعل مصير الكاتب كان سيتحوّل إلى مصير آخر، لو يسّرت الصدف هذا اللقاء. وعاد ثانية إلى الجزائر سنة 1883، لكن هذه المرّة لم يجذبه إليها حبّه لمغارب الشمس في الفضاءات الصحراوية اللامتناهية وفضوله وولعه بشخصية بوعمامة، وإنما جاء هروبا من الموت المداهم، فقد نصحه أصدقاؤه بالذهاب إلى الجزائر بحثا عن الشفاء، بعد أن أصيب بالجنون وحاول الانتحار عدة مرات لكن الجزائر لم تنفعه هذه المرّة، فعاد إلى باريس، واحتجز في عيادة إلى أن فارق الحياة يوم 6 جويلية 1893، وهو غارق في هوّة الجنون السحيق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق