ما شدّ انتباهنا أثناء إنجاز هذا التحقيق الخاص بعالم المتسولين موقف مؤثر جدا استوقفنا عند مرورنا بالحي المجاور لمقر البلدية، أين رأينا طفلة توحي ملامحها بأن عمرها لا يزيد عن 8 سنوات، في حين صرحت عندما بادرناها بالسؤال أن عمرها 14 سنة، إذ ألحت علينا منحها بعض الدنانير لشراء ما تسدّ بها جوعها وجوع عائلتها-على حد قولها- فاشترطنا الإجابة عن كل أسئلتنا لتمكينها مما تريد، فكانت المفاجأة أن صرحت بأن والديها يرغمانها على التسول هي وأخواتها اللواتي يتوزعن عبر أحياء المدينة ليكون اللقاء وحساب الحصيلة في المساء والويل للتي لا تجلب المال، إذ تتعرض للعقاب والشكر يكون لمن تعود بالمحصول الوفير.
طفل متسول يعترف: الجوع أخرجني إلى الشارع
طفل آخر قال إنه يدعى منير وعمره 9 سنوات وقد ترك مقاعد المدرسة لأنه كره من المبيت جائعا، حيث أردف: بينما أقراني يعيشون الدفء والحنان ويلبسون ويأكلون ما يريدون ويشتهون، أعاني وأتعذّب من الجوع وإن أكلت لا أشبع، هذا الوضع مللته وحتى والدي أمرني بالخروج إلى الشارع لأجمع المال، فأقوم بإخفاء مبلغ خاص بي وأمنحه الباقي وذلك كل مساء، وكل يوم وبركته .
مصادر مطلعة كشفت أن مجهولين يستغلون أطفالا أبرياء لتحقيق مآربهم والحصول على مكاسب مادية سهلة من غير عناء، وهم الذين يجمعونهم ليلا للحصول على الغنائم المتحصّل عليها، فيما ذكر مصدر موثوق أنه في الليل يتحول نشاط المتسولين والبارونات الذين يشغلون البراءة ببعض الفنادق إلى ممارسة الدعارة والفساد، والمرأة التي كانت في النهار تصحب طفلا بريئا وتستعطف ذوي البر والإحسان وهي ترتدي ثيابا رثة، تتحول إلى سيدة حسناء تبتز جيوب ضعاف النفوس، وهو ما أثار استياء السكان و طالبوا الجهات الوصية باتخاذ أساليب ردعية للقضاء على الظاهرة وتخليص الأطفال من هذا الواقع الأمرّ والتكفل بإيوائهم.
وقد حوّلت الشوارع الكبرى بالنعامة والمشرية إلى ملجأ للمتسولين ولا تستغرب إذا استوقفتك شابة في ريعان شبابها أو شاب يافع تبهرك قوته أو أطفال يسألونك بعض الصدقات بعبارات حفظوها من خلال الممارسة والتلقين المسبق.
غرباء يلتحقون بعالم التسول
الغريب في كل هذا أن ولاية النعامة تعرف بتقاليدها وأعرافها فهي منطقة جد محافظة وما لبثت أن حوّلت إلى ملجأ للمشرّدين، علما أنها
تعد من الولايات التي تتميز بمناخ بارد جدا شتاء وحار صيفا، خاصة بالمناطق المرتفعة، منها الجهة الشمالية التي تجتاحها موجات برد قاسية مع تساقط كثيف للثلج أو الجليد بكثافة خاصة ليلا، حيث تنخفض درجة الحرارة إلى ما دون الصفر بكثير وتتجاوز العشر درجات بالجهة الجنوبية في أحسن الأحوال، كما تشير إحصائيات مديرية النشاط الاجتماعي من خلال فرقتها المتنقلة كل ليلة منذ انطلاق الحملة إلى وجودنحو 20متشردا جديدا انضموا إلى قافلة المتسولين الذين يتعدى عددهم 40 شخصا، وهم غرباء عن المدينة يلتحقون بالشوارع كل ليلة لا مأوى لهم ويفترشون الأرض ويلتحفون السماء .
متسولون ينتهجون السرقة
هذا الزحف البشري الذي غزا شوارع كبريات المدن أصبح يشكل خطرا كبيرا على سلامة المواطنين في الشوارع وحتى في سكناتهم، ولعل من الظواهر التي شدت انتباهنا أمام مقر الحافلات، امرأة تنتظر زوجها داخل السيارة ولم يكن في حسبانها أن هناك من يقتحم عليها السيارة فإذا بامرأة تفتح عليها باب السيارة من غير سابق معرفة، سائلة إياها الصدقة أو بعبارة أخرى – المعروف- و أمام دهشة تلك السيدة التي صرخت صرخة واحدة ثم أغمي عليها، لم تعبأ بها المتسولة بل استولت على حقيبة اليد من المقعد الخلفي للسيارة ولاذت بالفرار، ولولا تدخل بعض المواطنين الذين استرجعوا الحقيبة إلى السيارة وطمأنوا المرأة بعد استرجاع وعيها، من هذه الواقعة تبين لنا أن هذه المتسولة لم تكن لوحدها في المنطقة بل كانت تعمل ضمن شبكة مختلطة، فمن بين المتدخلين لاسترجاع الحقيبة المسلوبة من كان يدافع على المتسولة بأنها تجري وراء لقمة العيش وقد أخطأت واعترفت بخطئها، المسامح كريم وعبارات أخرى كلها شفقة.
وتشير إحدى المتسولات الطاعنات في السن إلى أن التسول أحسن بكثير من انتهاج مسلك الانحراف، كما تفعل بعض المتسولات وأن مكسبها اليومي لا يقل عن 2000 دينار، متسولة أخرى جريئة قالت بسخرية : نحن نحصل على دخل لا يحلم به من كرّس حياته في طلب العلم وأحسن من مدخول موظف عند الدولة.
أستاذ في علم الاجتماع أفاد لجريدة صوت الغرب أن الظاهرة نتجت عن عمليات النزوح المتواصلة التي تشهدها ولاية النعامة منذ عدة سنوات، كان وراءها انتشار البيوت القصديرية التي سربت للمجتمع جملة من الآفات الاجتماعية الأخرى، لعل من بينها تعاطي المخدرات والحبوب المهلوسة و نهج عالم الدعارة، مضيفا أن التسول يتمّ بشكل منظم ضمن مجموعات لها قائدها أو يكون فرديا، وحسب بعض المواطنين فإن لقاء هؤلاء مع الرؤوس الكبيرة لمهنة التسول يعقد كل مساء لإحصاء المكاسب وتوزيع الغنائم وفق سلم منح معين، وغالبا ما يكون اللقاء ببعض الفنادق المشبوهة التي يمتهن فيها الدعارة .
سحب الأطفال من المتسولين
اتخذت مديرية النشاط الاجتماعي بولاية النعامة إجراءات ردعية من أهمها سحب الأطفال من المتسولات اللواتي يتخذن منهم وسيلة لاستعطاف الناس وتحقيق مداخيل كبيرة، إضافة إلى التكفل بإعادة الأشخاص القادمين من الولايات المجاورة، وبلغ عددهم أكثر من 20 شخصا الذين لا يملكون مأوى، إلى ولاياتهم الأصلية أو إلى مراكز خاصة تتوفر على التدفئة والوجبات الساخنة وكل الشروط الصحية الضرورية.
وقد انطلقت الحملة منذ الأسبوع الفارط بكل الشوارع لجمع المتشردين، وقال مدير النشاط الاجتماعي إن العملية تندرج ضمن النشاط العادي للمديرية في هذه الظروف، حيث تجتاح الولاية موجة برد وسوء الأحوال الجوية إذ يقصد الأعوان المواقع التي يلجأ إليها المتشردون ليلا ويعرضون عليهم نقلهم إلى مراكز تحفظ صحتهم وتقدم لهم العون الذي يريدون، فضلا عن مشاركة المدير بنفسه في أغلب الخرجات بعدة شوارع، إذ تحدث إلى عدد من هؤلاء النيام على الأرصفة وقرب محطة المسافرين أو في أروقة محلات الرئيس هروبا من الصقيع والبرد القارص، وأفهمهم أن المبيت في الخارج سيعرضهم للخطر.
بالموازاة مع ذلك تؤدي فرق أخرى العمل ذاته في النعامة وغيرها من المدن الكبيرة بالولاية، علما أن وزارة التضامن الوطني سبق وأن أعدت 72 ملجِأ عبر الوطن يحظى بدعم وتموين ذوي البر والإحسان من تجار وصناعيين ومستثمرين يساعدون على التخفيف من معاناة رجال، نساء وأطفال الذين لا مأوى لهم.
سلامي. إبراهيم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق